25 يناير يوم كسرتُ الخوف بيدي

لم تكن مظاهرتي الأولى, ولكنها الأكثر تأثيرًا منذ بداية الثورة وحتى الساعة، أمر ما في قلبي لا أعرف له اسمًا كان يحدثني أنها مظاهرة فارقة في حياتي!! تلك الرعشات والشحنات تسري ذهابًا وإيابًا، رجفة في صوتي، وعيوني زائغة تدور حول نفسها!! أسير بسرعة لمكان التظاهر وأمسك علمي بقوة وهاتفي يلتقط الصور، حتى سمعت صوته..!

أب يصرخ في طفليه ليوقف بكاءهما لما رأوا رجال الأمن المنتشرين وزحام المتظاهرين، التفَتُّ إليه أستوضح وقفته معنا فإذا به يخبرهم بصوت عالٍ: “ماتعيّطوش، اهتفوا معايا، عشان بلدنا، قولوا معايا، اتعلموا”!!

تعجبت ونظرت لحالي، ما بالي اليوم؟ أيخيفني كم رجال الأمن بزيهم الأسود الذي أحال النهار سوادًا؟؟ أم قلق من نظرات التحفز والاستعداد للانقضاض التي أراها في عيون الشرطة؟ ما أضعف صوتي، لكأن صراخ الأب كان لي، فنظرت أمامي وهتفت ملوّحةً بيدي:
تغيير، حرية، عدالة اجتماعية
تغيير، حرية، عدالة اجتماعية

أردد معهم، وعيناي على الطفلين.. يبكيان تارة، وتارة ينظران في رعب متواصل، يهتف والدهما، يحمل أحدهما، يربت على كتف الآخر، وأنا أهتف وأتابعهما كل دقيقة وأخرى، وكلما زاد رجال الأمن عددًا ووُزّعت عليهم الهراوات مددًا تحسبًا للاشتباك معنا، ازداد الطفلين تشبثًا في والدهما.

“أنا جايبك أعلمك”.. رجل مسنّ يمسك بيده حفيده، يقف على مقربة مني: “أنا جايبك تتعلم تاخد حقك وتدافع عنه ما تسكتش”!  ضحكت في سري، ما بالكم اليوم تذكرتم دروس الوطنية فجئتم تنقلونها لأولادكم في تجربة عملية؟ أم أنها رسائل السماء لي تثبتني كلما أصابني تعب أو قلق؟.

بعد ساعات سمعت صوت طفل يهتف، فإذا بالصبي أوقفه والده على الحاجز الأمني أمام المتظاهرين، يهتف بصوت عالٍ: “عسكر عسكر عسكر ليه؟ إحنا ف سجن ولاّ إيه؟”

رددنا خلفه هتافاته، كان يضحك وهو يهتف، وكنا معه مبتسمين، ينظر لوالده فيرد عليه بنظرات استحسان وتشجيع، يزداد الجو شحونة والأب يقفز بجوار ولده يهتف معه، فينتقل الأمر ما بين أرواحنا في عدوى سريعة، هتافات بوجوه باسمه وهِمم تعلو كلما مر الوقت وتعبنا، لا أدري أين ذهب الجد وحفيده؟ قد يكونان قد سبقانا إلى التحرير، أما نحن فظللنا محاصرين في دار القضاء.

أسمع صوت دندنة ورائي! أنظر خلفي فإذا عسكري الأمن يهتف معنا بصوت خافت وعين تسرح في المكان!!
-“بتقول معانا؟”، سألته.
يرد بوجه متعب: “إحنا غلبانين احنا كمان…… إنتي هنا إمتى؟”
- “من الضهر”، أجبته.
فيكمل: “أنا هنا من اتنين بالليل”!
تركته يهتف واقتسمت معه طعامي فإذا بالمأكولات تنهال على المتظاهرين لا ندري لها مصدرًا، غير أن الجميع كان يدعو لمن فعلها ويتمنون –بخفة دم- أكوابًا من الشاي وكراسي لأن البعض فكر في المبيت!

تـــــــــش!!
صوت ماء يأتي من عَلٍ!! سيدة عجوز تقف في شرفتها بأحد البنايات المجاورة لمكان التظاهر، تمسك دلوًا تملؤه ماءً وتصبه صبًا على رجال الأمن! أماتتنا ضحكًا كلما فعلتها ويزداد هتافنا علوًا كلما لوحت لنا بيدها، ظلت تكررها مرارًا حتى اختفت السيدة من الشرفة وظهر بدلاً منها رجال شرطة!

استشطنا غضبًا وصرنا نهتف ثائرين ندعوهم أن يبتعدوا ويتركوها. وكلما مررت بجوار بيتها فكرت في زيارتها، أحكي لها ما فعلناه من بداية يومنا، وأسألها هل كانت تتوقع أن تصير الأمور إلى ما آلت إليه؟ مظاهرات، فصدامات، فدماء، فاعتصامات، فثورة، فتنحٍّ؟

عدت للمنزل يومها منتشية مصرة على أن أكمل في اليوم التالي وقد كان.

تلك نماذج عايشتها في أول يوم من أيام ثورتنا البيضاء، فكيف بباقي الأبطال الذين عايشتهم ممّن سكنوا الميدان؟ نماذج مصرية أصيلة، قوية بما تحمله من إصرار. علموني أمورًا، وأذابوا تلك الهالة التي أخافتني يومًا، ازددت ثقة في نفسي، أكملت مع أولئك الثورة واستدفأت بأنفاسهم وطربت لضحكاتهم وصارت دموعنا واحدة،،، صار الميدان لنا بيتًا والثوّار أهالينا!

بين جنبات الوطن أناس كاللؤلؤ بهم أكملنا الثورة، وبهم سنزيل بقايا العهد الظالم، ليعود للوطن بريقه.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة