انتظريني

كلما نضب معين الفكر أو توقفت عجلته عن الدوران، أخذت أقلب في أوراقي القديمة بحثا عن فكرة أزيح بها الصدأ. واليوم وأنا في تلك الحالة من الفراغ العقلي، في انتظار خاطرة إبداعية "تفك النحس" فتنفرط بعدها الأحرف وتتشابك في كلمات تتلاحق في جمل تبني فقرات، أسترجع حالة تضعني فيها ريم بنا عندما تشدو "انتظريني." اخترقت كلمات الأغنية أذنيّ ذات يوم وأنا في مكتبة ديوان، وحفرت مكانا في ذاكرتي دون أن أنتبه لها حتى أنه بعد مرور أسابيع على تلك الزيارة وجدتني أطوف في محركات البحث أفتش عن "انثري الخزامى بين ثنايا ثوبك وافردي شعرك للريح." ووصلت إليها، انتظريني.

انتظريني حبيبتي عند العين
املأي جرارك وانتظريني
النبع وافرٌ ماؤه
املأي جرارك لترويني
طال انتظاري يا حبيبي
ولم تأتِ بعد
انتظريني حبيبتي على الصخور البيضاء فوق التلّة
اقطفي من الزهر ضمّتين
من شقائق النعمان ضمّة
وضمّة من أقحوان
أنثري الخُزامى فوق ثنايا ثوبك
وافردي شَعْرَكِ للريح
تُبعثره وتلمّه عن تفاصيل جذعكِ
وانتظريني
طال انتظاري يا حبيبي
خطّ الشيب شَعْري
ولم
تأتِ
وداعًا 
يا حبيبي 

وأتعلق بتلك الكلمات وأحفظها وأرددها وأكتبها في صفحاتي وأدندنها وأغنيها. وتستوقفني الأغنية في كل مرة، فهي قصة الغائب الذي خرج ولم ولن يعود، ومع ذلك نمني أنفسنا يوما بعد يوم بأنه حتما سيرجع لنا، وإلا فسنلحق نحن به، فنستعجل رحيلنا إليه. إنها الصورة التي أحفظها عن فلسطين، عن مفتاح الدار الذي تعلقه النساء في رقبتهن ويتنظرن في صبر وتحمل وإصرار يوم العودة. إنها صياغة أخرى لشادي فيروز مع تغير المناظر والمواقع، فبينما يضيع شادي في الغابة، وتمر السنون ممثلة في الثلج الذي "إجه وراح،" يتيح الغائب لحبيبته مساحات أوسع في انتظريني، حيث يتحول الوطن بأكمله إلى موضع انتظار، صعودا وهبوطا، أرضا وماء وصخرا وزرعا وأزهارا وعطورا، الكون كله يشارك يتوحد معها في بحثها عن الغائب الذي أهداها الطرقات والطبيعة والجمال، فتارة يواعدها عند العين وتارة يدفعها لتسلق التلة، فيكون هو الحاضر في خريطة الوطن ويكون في بعده دليلها إلى معالم أرضها الطيبة، لكن اللقاء حلم قد استحال فيفنى العمر في أمل اللقاء.

هي ليست قصة حب، وإنما قصة بقاء. هي ليست قصة فقد، بل قصة صبر وتصبر. هي قصة شهد عليها الدهر يوما بعد يوم في كل بقعة أرض تاهت من صاحبها. هي قصة امرأة ورجل وحياة وموت.

وبعد أن أنتهي من القصة، ترتسم في مخيلتي صورة المرأة، صورة تشكلت في ذاكرتي أنا حتى أصبحت أعرف بها النوع الذي أحب أن أكونه من النساء. أراها فوق التلة، ظهرها للمشاهد ووجها يتطلع في الأفق، ترمي نظرة إلى بعيد علها تلمحه يخطو إليها. شعرها أهوش و"غجري مجنون" ويعاند الريح. تتشبث بأطراف شالها الذي يحيط بكتفيها، لونه أسود وموشى بأزهار بارزة وترتدي فستانا أسود ذا تنورة متعددة الطبقات. لا أتيقن من النصف الأعلى من زيها إذ يختبيء تحت الشال. عيناها بنيتان، ضيقتان، لامعتان، والشمس تعاكسها فتضيقان أكثر. نظراتها نافذة لسبب خفي. تقف حافية على العشب الأخضر، فهي تمقت الأحذية، إذ تقيد قدميها وتفصلهما عن الطبيعة وتحرمها تحسس الرمال والعشب والصخور، والندى الذي بلل الأرض في أول اليوم قبل أن تجففه الحرارة التي انسكبت عليها. تعكف على حقول لتقطف من الأزهار ما وصاها بها الغائب قبل أن تبدأ رحلتها اليومية إلى حافة التل حيث تلتقي السماء والأرض. عندما يرهقها الوقوف، تجلس على العشب وتمرر يديها برفق فوقه، وتحدثه عنها وعنه وعن مشوارها وعن انتظارها. وتبقى في موقعها حتى الغروب لتتطلع في حمرة الشفق. وقبل أن يسدل الظلام أستاره، تعود، على وعد بأن تستكمل رحلة الانتظار غدًا، فهي قد أدمنت البحث عنه وآلفت الانتظار، حتى إن تتسرب من بين يديها السنوات.


الكاتب:  رضوى الشامي المدوّنة: Words & Apples
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة