يربط البعض مفهوم الإبداع بأنه الخروج عن المألوف، فنجد الكثيرين ممن يبحثون عن مكان لهم وسط المبدعين يسعَون لكسر كل القيود التي تعوقهم سواء أكانت اجتماعية أو أخلاقية أو حتى دينية. نجد مثلاً صحفية فلسطينية تحصد جوائز دولية لأنها تهاجم الأخلاق والفضائل وتدافع عن حقوق المثليين العرب بحجة الحرية الشخصية، ومخرجة فلسطينية سينمائية تستعين بمشاهد عري وألفاظ بذيئة في أفلامها فتصل للعالمية. مثقف فلسطيني يكتب بجوار خانة الديانة في صفحته على الفيس بوك: كافر، فيزيد عدد معجبيه. كاتب عربي يهاجم الأخلاق ويتطاول على الذات الإلهية (معاذ الله) في روايته ولا تعرف هل هي رواية أم وليمة ليُكافأَ من الغرب بأعلى الجوائز..! وآخرَ يزوّر التاريخ ويشوه الإسلام، فنجده قد حصل على أرفع الأوسمة وأرفع الجوائز التقديرية من الدولة. فنان ينحت تمثالاً لامرأة عارية ليلقب بفنان الإبداع التي لم تلده ولادة..! وآخرَ يرسم رجالاً ونساءً عرايا، فيطلق عليه لقب الفنان الرسام التشكيلي السريالي التكعيبي إلى آخره..! وهكذا، أصبح الإبداع مرهونًا بقلة الأدب، كلما كنت قليل الأدب كلما كنت أكثر إبداعًا، هذا هو حال المثقفين والمبدعين في عالمنا العربي.
أما إذا كنت كاتبًا أو مفكرًا ملتزمًا، فهذا يعني أنك رجعيٌّ متخلف، ليس لك علاقة بالإبداع لا من قريب ولا من بعيد، كيف تكون مبدعًا وأنت تحافظ على إنسانيتك ومبادئك؟، كيف تكون حضاريًا وأنت مازلت ملتزمًا بتعاليم دينك وأخلاقك الحميدة؟، كيف تكون مثقفًا إذا لم تكفُر بكل ما تربيت ونشأت عليه من قيم وأخلاقيات؟، كيف تكون مفكرًا واعدًا إذا لم تشِذّ عن القاعدة وتكسر كل القوانين والأنظمة؟.
هذا هو مفهوم الإبداع في عصرنا الحالي للأسف، الكثير من أبنائنا يفهمون الإبداع بطريقة خاطئة، وعذرهم بأن المبدعين الملتزمين مغمورون، لا مستقبل لهم، لا جوائز ولا تكريم ولا شهرة، لا يحصلون على شيء في النهاية. وهذا ما يريده الغرب والأنظمة الفاسدة في مجتمعاتنا، يريدون أن يُوصلوا رسالة للشباب مفادها: لكي تكون مبدعًا لابد أن تكون فاسقًا، لكي تكون مبدعًا لابد أن تكون قليل الأدب، لكي تكون مبدعًا لابد أن تكون فاسدًا ومفسدًا في مجتمعك، تدعو للرذيلة والإباحية والتحرر بمفهومه الغربي، ولا تقلق سوف نغدق عليك المال والشهرة، سوف نسَبّب لك الأسباب ونيسر لك الأمور، ونضعك في مصافّ العلماء والأدباء، ونقوم بمنحك الجوائز العالمية لإيهام الناس بأنك من خيرة وصفوة المجتمع، وسوف يلمع اسمك كنجمة في سماء عالم المشاهير.
ومن أخطر هؤلاء المفسدين أولئك الذين يكونون على اتصال مباشر بالجماهير وخاصة فئة الشباب والأطفال، نذكر منهم الذين يعملون في الحقل الإعلامي وأولئك الذين يرتدون عباءة الدين ليبثوا أفكارهم المسمومة عبر الأثير، فتصل سريعة لقلوب وعقول عوامّ المسلمين. للأسف.. فإن هؤلاء المبدعين هم من ذوي النفوس المريضة التي تسعى للمال والشهرة بشتى الوسائل دون وازع أو رادع. هؤلاء المفسدون "المُغرّر بهم" اعتقدوا أن الإسلام يقف حاجزًا بينهم وبين الإبداع والتحليق في سماء الفكر والحرية، احتقروا المفكرين العرب المسلمين والملتزمين، واتهموهم بالتخلف والرجعية ونسَوا أو تناسَوا أن من مفكريهم الغربيين العظماء من أنصف الإسلام وأخلاقه، ومثال على ذلك "إتيان دينيه" الذي قال:
((إن العقيدة الإسلامية لا تقف عقبة في سبيل الفكر، فقد يكون المرء صحيح الإسلام، وفي الوقت نفسه حر الفكر، ولا تقتضي حرية الفكر أن يكون المرء منكرًا لله، لقد رفع (محمد) قدرَ العلم إلى أعظم الدرجات، وجعله من أول واجبات المسلم)).
هذا أحد المفكرين الغربيين، ينصف الإسلام والمسلمين بينما أبناء الإسلام يتنصلون منه ويحتقرونه لأنه من وجهة نظرهم يقيد إبداعهم وتفكيرهم. وهذا مستشرق آخر يدعى "هورتن" يقول في أحد كتبه: (( في الإسلام وحده تجد اتحاد الدين والعلم، فهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما، فتجد فيه الدين ماثلاً متمكنًا في دائرة العلم، وترى وجهة الفلسفة ووجهة العلم متعانقتين، فهما واحدة لا اثنتان )).
أيها المفكرون المبدعون.. إن الشريعة الإسلامية قد تركت للعقل البشري مساحات واسعة للتفكير والابتكار والإبداع، فقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "أنتم أعلم بأمور دنياكم" رواه مسلم .. وقال أيضًا: "ما أحَلّ اللهُ، فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكَتَ عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا، ثم تلا ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)) (سورة مريم:64).
ومثله حديث: "إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّمَ أشياء فلا تنتهكوها، وسكتَ عن أشياء، رحمةً بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" رواه الدارقطني.
يا أمةَ اقرأ التي لا تقرأ... إن الإبداع لا يعني الخروج عن المألوف والثابت، ولا يعني الهجوم على الأشياء المقدسة، ولا يعني تحليل الحرام، لكل شيء حدود حتى الإبداع له إطار يحكمه وينظمه، وهذا ما تحدث عنه أفلاطون في كتبه قبل آلاف السنين.
أما نحن أنصاف المبدعين، فلنا الله، نحن لا نسعى لجائزة ولا لوسام يعلق على صدورنا بأيدي أعدائنا وأعداء ديننا، نحن نسعى لنترك خلفنا إرثًا ثقافيًا يستفيد منه من يأتي بعدنا، نحن نترك خلفنا عملاً صالحًا وعلمًا يُنتَفَع به.
((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون))