عن الأشياء الصغيرة التي تصنع فارقًا

 لدي اليوم حكايتان حدثتا منذ زمن بعيد نسبيًا، الأولى هي الأقدم:
أثناء دراستي بالصف الأول الابتدائي، وفي أول حصة رسم، طلبت منا مُدَرّستنا "أبلة زيزيت"، وهي امرأة كبيرة في السن، ترتدي السواد طوال الوقت، وتجمع شعرها على شكل كعكة مهملة يكسوها الشيب خلف رأسها، طلبت منا أن نرسم بطًا يعوم في الماء..
سحبت دفتر الرسم ورسمت بطّاتٍ وجدول ماء وعرضته عليها، نظرت للرسم ثم نظرت لي وسألتني: "هو انت عمرك شفت بطة من غير زلمكة؟". اندهشت من السؤال وضحكت، وابتسمَت هي وسحبت قلمها الرصاص، عدّلت الرسم ورسمت ذيل البطة، وشعرت أنا بالفارق، فقد صارت البطة أجمل. من يومها وأنا أعشق الرسم وأعشق الأبلة "زيزيت".
حتى ما قبل سفري بوقت قليل، كنت أرى الأبلة "زيزيت" في شارع المدرسة حيث تسكن هي قريبًا من مدرستي القديمة. هي لا تتذكرني، وأنا لم أنسَ واقعة البطة.

الثانية وهي الأحدث:
أثناء دراستي بالجامعة اصطحبَت ابنةُ عمي ابنتها "فيروز" لزيارتنا، ورغبة مني في الترفيه عنها عرضت عليها مشاهدة أفلام الكارتون على جهاز الحاسب، فأخبرتني أنها شاهدت جميع الأفلام الموجودة لدي، فعرضت عليها أن نرسم باستخدام برنامج الرسام، أخبرتني أنها لا تجيد الرسم، فأخبرتها أني سأعلمها. رسمت لها وردة وقمت بتلوينها، وطلبت منها أن ترسم مثلها، حاولَت ولكن بعد انتهائها من الرسم والتلوين، لم تكن الوردة تشبة الورد، لكنها كانت أقرب لأشكال هندسية مربعة ومستطيلة.
عندما نظرت لـ "فيروز" وجدتها حزينة، فسألتها عن السبب، فأخبرتني أن الوردة لا تشبه الورد، كما أنها لا تشبه وردتي. عندها أخبرتها أنه ليست هناك مشكلة في أن تكون وردتها مختلفة قليلاً، أو كثيراً عن الورد، أو أن لا تشبه وردتي، المهم أنها هي من رسمت الوردة بنفسها، وأن الوردة تعجبني، بل وتبدو لي جميلة. وقتها تبدل الحزن في عينيها إلى سعادة غامرة، وأخبرتني أمُّها أنها لم تكفّ ذلك اليوم عن الحديث عن الوردة وعن ما أخبرتها أياه.

مرت سنون كثيرة، وأنا مازلت أتذكر. مازلت أعشق الرسم بسبب الأبلة "زيزيت"، وواثق أن "فيروز" تحب الرسم الآن.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة