عطر الموت

وقفت والحيرة تتلاعب برأسها، ترى أي عطر تختار؟!.. أمسكت بتلك الزجاجة الحمراء، تفحصتها وأعادتها لمكانها أعلى ذاك الرف؛ فليس لديها أي رغبة بأن تكون ليلتها بنكهة التوت البري..!، داعبت بأناملها الحانية خصلات حريرها الأسود المنسدل على أغلب جسدها، وعادت تستكشف كل العطور، وما أكثر ما تملك منها!!، أخيراً وجدت ما تريد.. هذه الزجاجة!، فتحتها وقطرت سائلها بمغطسها الرحيب، ومزجته بمائه الدافىء حتى امتلئ برغوة كثيفة وامتلئت أرجاء المكان برائحة المسك والصندل!!، لملمت حريرها الطويل ببعض مشابك الشعر، وغطست بنهرها العطر، وراحت تعبث كالأطفال بالماء... فأمطرت أرضية المكان بالرغوة الدافئة... كم تعشق أن تنهي يومها المتوتر بمثل هذا الحمام!!، حتى أنها تنفق الكثير من الوقت لتفرغ منه، كما تنفق الكثير من المال على اقتناء عطورها الفواحة!.

هنا على باب غرفتها تقف بخوف، تتقدم خطوة وتتراجع ثلاث، هي لا تريد أن تستسلم له، ولكنه آت لا مفر!!،.. فكرت لثوان بأن ترجع لأحضان عطرها الدافئ حتى الصباح، ثم قررت أن تقبع بسريرها، فلن يجدي الهروب من معركة الليل المحتملة، إن كانت حرب النهار أكيـدة لا محال!!، داهمها النعاس وكلما أطبقت جفونها تعود لتفتحها بسرعة، ولكن تلك المرة أغلقتها ولم تقوى على الفتح ثانية..!، غرقت بنوم عميق هادىء، حتى جاء هو بنفس المكان.. ونفس النظرة، بنفس الإصرار.. ونفس الشوق والرغبة!!..، حاولت أن تستيقظ ولكن كل أبواب الرجوع مغلقة بأمر السلطان!.

بدأت المعركة.. راح يلاحقها بسهامه القاتلة؛ التي تدغدغ إحساسها وتضعف قواها.. فتقاوم بكل صمود، تخشى أن يلمسها فتخر مستسلمة له!!، فرت بعيداً عنه.. فأمسك بأطراف حريرها المتطاير خلفها، آه.. فكم تلعن ذاك الشعر الطويل!!؛ جذبها له، وصوب نظراته الساحرة لها، كماء عذب يجري بأرض عطشى ملئتها شقوق الظمأ، فأبدل صلابتها لين...!!، رفع كفيها الناعمين له وراح يلثم أناملها، شعرت بدفء أنفاسه؛ فسحبت يدها بسرعة ودفعته بعيداً عنها، وأخيرا استطاعت الاستيقاظ!، تنهدت مبتسمة؛ كمحارب منتصر أنهكه وطيس المعركة!.

بأقل من ساعة كانت قد انتهت من هندامها، وأصبحت بطريقها للعمل، هنا على باب المكتب تقف بخوف، تتقدم خطوة وتتراجع ثلاث!!، أخذت نفسـًا عميقـاً إستعداداً لمعركة نهارية جديدة معه!!، دخلت متجاهلة وجوده، وجلست وكأنها ستبدأ بمهامها..، فعندما استلمت عملها بهذه الشركة منذ قرابة العام، كان هذا المكتب لها وحدها، وكان الوقت يمر ثقيلاً مملاً، وكأن الوحدة أقسمت بألا تفارقها أينما وجدت!، حتى أخبرها صاحب العمل بأن هناك زميل سيشاركها أياه، فرحت ولم تبدي أي استياء، لعله يقتل ذاك الملل الرتيب، ولم تتوقع ولو لثانية أن يكون هو سبب شقائها ليلاً نهاراً!!، عندما أتى ليستلم عمله كان خجولاً للغاية، ويبدو عليه الالتزام.. وأطمئنت له عندما عرفت إنه متزوج وأباً لثلاثة أطفال، ولكن سرعان ما اختفى الخجل، وتبدد الالتزام، وتلاشت الطمئنينة من قلبها.. بمجرد أن وصلت له تلك المعلومة، أن هذه الساحرة المثيرة التي تشاركه المكتب، مطلقة منذ خمسة أعوام، فبدأت المأساة!!.

لم ترفع عيونها من على سطح مكتبها.. إلا عندما وضع عامل -البوفيه- فنجان قهوتها الصباحية، ليقع نظرها عليه.. يصوب نظراته الساحرة لها، تخترق ملابسها، توخز جسدها، فتؤلمهــا..!، ارتبكت وتوترت ككل يوم، فلم تعد تملك المقدرة على التركيز بعملها، حتى ذلك المشروع الهام والعاجل، ظل حبيس الأدراج منذ أسبوع ولم تبدأ به بعد!، وزاد التوتر عندما صفعها عطره المثير قبل أن يقترب منها ليبلغها أن صاحب العمل قرر أن يجتمع بكل مهندسي الشركة بعد ساعة..!، ولم تكن هناك حصيلة لهذا الاجتماع إلا مكافئة له على نشاطه بيومين أجازة، وتوبيخها بسبب تأخير رسومات المشروع، والتأكيد عليها إن لم تسلمها خلال ثماني وأربعين ساعة كحد أقصى سيُتخذ معها الإجراءات اللازمة!.

ورغم غضبها من مكافئة المتسبب في تقصيرها، إلا أنها مرتاحة كون هناك ما يجبرها على التركيز وبنفس الوقت يحميها منه ومن معاركه المميتة، التي قد لا تقوى عليها بعد ذلك!، ومرت تلك الساعات الثماني والأربعون، مابين رسومات المشروع، وأحضان عطورها الدافئة بجلسات استجمامها اليومية!، لا نوم.. لا معارك.. وتستعين بالقهوة على المواصلة حتى تنهي المهمة.. ولكنها لم تتمكن من إنهاء الرسم بعد كل هذا!، فأجبرها صاحب الشركة على البقاء بالمكتب بعد إنصراف العاملين؛ حتى وإن بقت لمنتصف الليل لتخلص منها كاملة بهذه الليلة!!.

كانت قواها قربت على النفاذ، فلم تنم منذ أكثر من يومين، وقد أرهقها ذلك التركيز المركز!، وعندما شرف الليل على المجيء كانت لاتزال بالمكتب، ترسم بضعف وتحتسي القهوة.. وتقاوم بإعياء شديد، حتى بدأت الخطوط بالتداخل.. والألوان بالتضارب من حولها!؛ فأغمضت عيونها علها تستعيد بعضًا من تركيزها وعندما فتحتها من جديد وجدته واقفـًا بنفس المكان.. ونفس النظرة، بنفس الإصرار.. ونفس الشوق والرغبة!!..، وراح عطره المثير يعصف بأرجاء المكتب!، لم تعد تفهم ... لم تعد تعي.. أين هي؟!،.. وأي معركة هذه؟!!، أمسكت برأسها... تقاربت الجدار، وتلاشت الألوان، فسقطت على الأرض مغشيًا عليها!.. وما إن شعرت بدفء أنفاسه تتسلل لداخلها.. انتفضت ودفعته بعيداً عنها، فتنهد هو مبتسمًا؛ كمحارب منتصر أنهكه وطيس المعركة!.. وكان قد امتزج عطره المثير بعطورها الدافئة!!، لملمت ما تبقى منها، وتركت رسوماتها وفنجان قهوتها، وهرولت للخارج مسرعة!. ملأت مغطسها بالماء، وأفرغت به كل عطورها الفواحة، وراحت تعبث كطفلة مشاغبة، حتى إنها أغرقت كل ما حولها بالرغوة الدافئة!!، أنفقت وقتـًا طويلاً لتفرغ من حمامها، وهنا على باب غرفتها تقف بثبات.. لتدخل بخطا مستقيمة.. فلقد قررت الإستسلام له، أخذت تلك الحبوب المنومة واحدة تلو الأخرى، حتى أفرغت العبوة عن بكرة أبيها!!،.. وخلدت لسريرها تنتظره، غرقت بنوم عميق جداً وهادئ للغاية!!.... مر الوقت حتى أزعج عطرها الجيران، وأبلغوا الشرطة فكسروا بابها؛ وكانت هي مستسلمة تمامًا.. وقد فرت كل عطورها هاربة... ولم يبقى بغرفتها سوى عطــر المـــوت!!


الكاتب:  رحاب الخضري  المدوّنة: فتافيت ربع قرن
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة