ولا تقربوا الصلاة

140حرف في " تغريدة " علي تويتر ، أو 420 حرف في " ستاتس " علي الفيس بوك ، وفيديوهات علي اليوتيوب متوسط دقائقها لا يزيد عن خمس دقائق .. تلك الثلاثة وسائل - التي تُقدم من أشهر وأكثر ثلاثة مواقع زيارة وتفاعلا علي مستوي مصر وكل دول العالم – ، أصبحت تشكل - شئنا أم أبينا - الرأي الجمعي لطبقة كبيرة ومتزايدة من المجتمع المصري . تلك الجماعة من البشر التي لا تتوقف علي مستخدمي الانترنت فقط ، ولكنها تشمل أيضا من يتسبب مستخدمي الانترنت في التأثير علي آرائهم وتوجهاتهم ..
ووسط ما نعانيه من قصور في بعض وسائل الاعلام المتخصصة ، وتجاهل لمبادئ وأخلاقيات العمل الاعلامي ، وجني للمكاسب وتفضيل للمصالح الفردية أو الفئوية علي حساب نقل الحقيقة والصورة الواضحة للمتلقي - سواء كان اعلاما مرئيا أو مقروءا - . يظهر لنا اعلام تويتر والفيس بوك واليوتيوب كنوعا مختلفا من الإعلام . أهم ظواهره أنه اعلاما شعبيا بالدرجة الأولي ، يستطيع أي فرد منا أن يشارك فيه ويكون هو صانع وناقل المحتوي الاعلامي ..
وتلك المساحة الضيقة المتاحة من تلك الوسائل الالكترونية ، سواء كانت ضيقة بسبب قلة الكلمات المتاحة في كل " بوست " علي تويتر وفيس بوك ، أو لقصر مقاطع الفيديو علي اليوتيوب ، بات يستغلها البعض في نقل الاخبار والمحتوي الإعلامي بمنطق " ولا تقربوا الصلاة " .. هذا المنطق الذي يقصد به أن يتم اقتطاع جزء من قول ما ، خارج سياقه ، ويضاف عليه بعض التلميحات التي تحول معناه والمقصد منه تحويلا جذريا ، يقلب الصورة 180 درجة ... فتجعل معني الآية القرآنية الكريمة ) ولَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) ، وكأنها نهيا تاما عن أداء فرض من فرائض الله - عز وجل - ، التي أقرها وأوجبها علي كل مسلم .. بعد أن يجتزأ منها جزء لا يفي لا بالمعني ولا بالغرض ، هو : ) ولَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ .. )
ووسط غياب للرقابة أو للمسائلة والمراجعة والتصحيح ، أصبح هذا الأسلوب هو السائد في تفاعل مستخدمي تلك المواقع مع الأحداث .. سواء كان عن قصد من بعض الناشرين أصحاب المصالح والغايات المتوارية ، أو كان بحسن نية - لدي الغالبية - ، التي تسارع بنشر آرائها الشخصية ، أو عمل " شيــر " لفيديوهات وكلمات لآخرين تقتنع بها . في حالة لا يمكن وصفها إلا بأنها نوع جديد من تداول جملة " ولا تقربوا الصلاة " ، ولكن بغايات مختلفة وبأساليب حديثة ..
ولنا في الأحداث التالية سردا بسيطا يوضح أمثلة لما أتحدث عنه :
- الاصطياد الذي عاني منه كثير من رجال الدين ، وبالتحديد شيوخ السلفية ، عندما تقتطع فتاوي أو أقوال لهم ، من حوارات تمت في وقت سابق ، وكانت لها مبرراتها وقتها .. إلا انه عندما يُستَشهَد بها الآن تُقدم بشكل يسوء من سمعة أصحابها ، و توضح فكرة لم تكن هي مقصدهم من الكلام بشكل عام ..
- انتشار فيديو للدكتور محمد البرادعي ، يُصرح فيه بضرورة تفتيش العراق من قِبّلِ الوكالة الذرية ، وأنه في حالة وجود أسلحة دمار شامل تخالف الاتفاقية التي أقرتها العراق ووقعت عليها من قبل ، فسيتم التعامل معها بحزم وشدة ، للقضاء علي هذة الأسلحة.
ويربط صانع الكليب بين ما قاله البرادعي في هذا التصريح ، وبين مشاهد قتل العراقيين الأبرياء من قبل قوات الاحتلال الأمريكي . مدعيا أن البرادعي هو السبب الرئيسي للغزو الأمريكي علي العراق ..
هذا الفيديو المقتطع ، يحدث فيه تجاهل ( مريب ) للأحداث التي تمت في الفترة الزمنية بين التصريح وبين بداية الحرب علي العراق ، و للحقائق التي تثبتها تصريحات صحفية وتلفزيونية من داخل اجتماعات الأمم المتحدة ، قال فيها البرادعي أنه بعد زيارته للعراق تأكد تماما خلوها من أي نوع من الأسلحة النووية .. وأن وكالة الطاقة الذرية – التي كان يرأسها آن ذاك – طالبت بمهلة 6 أشهر ، قبل أي تحرك عسكري ضد العراق ..
طبعا الولايات المتحدة لم تكترث لتقرير البرادعي ولجنته ، وبدأت حربها علي العراق بعدها بأيام قليلة .. ثم أتي بعدها بسنوات بعض المنتفعين من تشويه صورة البرادعي ، لينشروا فيديوهات تهديد البرادعي للعراق ويفسروها بالطريقة التي تناسب مصالحهم وأغراضهم الخبيثة ..
- انتشار فيديو للدكتور محمد سليم العوا ، يتحدث فيه عن عدم رغبته في الترشح لرئاسة الجمهورية ، معللا ذلك بعدم قدرته علي ادراة مكتبه الذي يتكون من 12 فرد .. استخدمه البعض كدليل ادانة للدكتور العوا ، مطالبينه بتفسير سبب عدوله عن رأيه ورغبته في الترشح الآن إذا كان في الأساس غير قادر علي إدارة اثنا عشر فرد ..
و تناسوا ، ببساطة ، الموقف والظرف ورؤية العوا الشخصية في تلك اللحظة ، ولم يهتموا بعشرات المرات التي خرج بعدها في كثير من البرامج ، ولم ينف أو يؤكد رغبته في الترشح – مما يعني أنه جد جديد ، جعله يفكر في الأمر بجدية - . بل إنهم لم يهتموا حتي بما قاله عندما أعلن عن ترشحه الرسمي وتفنيده للأسباب التي شجعته علي خوض هذة التجربة ..
- مقالة الأديب علاء الأسواني " هل نحارب طواحين الهواء . !؟ " : توقف الجميع عند النقطة التي ذكر فيها علاء الأسواني ، الصحابي الجليل " عثمان بن عفان " ، وراحوا يكيلون إلي الأسواني السب والتهم .. وتناسوا باقي النقاط التي تحدث عنها بالأدلة التي يقرها التاريخ أمام الجميع ، دون حاجة للدخول في جدالات حولها .. وتركوا المعني الرئيسي ، ولم يحاولوا فهم ما أراد الأسواني أن يقوله ..
- الفيديوهات التي تنتقد الإعلامية مني الشاذلي بسبب تفاعلها مع خطاب مبارك قبل موقعة الجمل ، الخطاب الذي جعلها مثل ملايين من عامة الشعب ، تشعر بالاعجاب الشديد لشخص الرئيس السابق .. وبغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معها في هذا الموقف ، فلم يكن ينبغي أن يُصَدّر هذا المشهد فجأة علي أنه واجهة لإعلامية عهدناها من أكثر الاعلاميين حيادية وموضوعية – في الغالب - ، وفجأة أيضا ننسي لها أنها أول من قامت بحوار مع " وائل غنيم " ، فكان حوارا كميلاد جديد للثورة . و كان لها الكثير من الحوارات المؤثرة الأخري أثناء اعتصام الميدان ، خاصة تلك الحلقة التي تحدثت فيها مع شهود عيان لموقعة الجمل من قلب الحدث ، وكانت كل الحلقة تشجيعا علي النزول لميدان التحرير والوقوف بجوار الثوار ، واستطاعت أن تغير صورة الثورة لدي الكثير من مرتادي البيوت في هذا الوقت ....
- ناهيك عن عشرات الفيديوهات والمقالات التي تنتقد سياسيين وفنانين ورجال مجتمع بسبب كلمات عابرة في أحاديث تليفزيونية أو صحفية ، يتم أجتزائها وتسليط الضوء عليها ، لتستغل في الهجوم الشخصي علي أصحابها .. حتي من خلال البرامج " اليوتيوبية الساخرة " التي انتشرت في الفترة الأخيرة ، وتفننت في التعامل مع كل تصريح وكل كلمة علي حدة ، بنفس المنطق المغلوط .. " ولا تقربوا الصلاة " ...
كل هذة الأمثلة شاهدناها جميعا خلال الفترة السابقة ، وأغلبنا قد يكون تأثر بها ، وراح يبني آراءه عليها ، دون أن ندرك أن ما نتحدث عنه هو مشهد واحد في فيلم طويل ممتلئ بالأحداث والمتغيرات ، بل رحنا ننشر هذة المشاهد المقتطعة علي جميع المواقع الاجتماعية علي شبكة الانترنت ، وبذلك بدأنا نُشكِّل بشكل أو بآخر اعتقادات وتوجهات خاطئة لدي كثير من الناس . فنبث بداخلنا وبداخل غيرنا آراء باطلة ، بنيت علي دلائل باطلة تتحول بمرور الوقت ، وبكثرة الإلحاح عليها ، إلي حقائق راسخة في عقولنا غير قابلة للتغير أو الإصلاح ..
لكن .. الفكرة ببساطة : من حقنا جميعا أن تكون لنا آراءنا وتوجهاتنا المختلفة ، وأن يبني كلنا منا آراءه علي ما يراه من شواهد ودلائل تقنعه .. ولكن حرية الرأي ، يقابلها مسئولية الرأي أيضا .. فعندما تنقل أو تُصدِر رأيا عن أي توجه أو عن أي شخص - كائنا من كان - ينبغي أن تحاول أن تري الصورة كاملة ، قدر المستطاع .. لا أن تحكم علي القرآن بأنه حرم الصلاة ، باكتفاءك بقراءة " ولا تقربوا الصلاة " ، في الوقت الذي ينبغي فيه أن تُكمل الآية إلي آخرها ، وتراها من جميع الزوايا ، وتشاهد الموقف بشكل كامل ، لتري كل شئ في سياقه الحقيقي ، ثم تبني علي ذلك رأيك الشخصي السليم ..
عندها فقط سوف تمتلك حرية الرأي الكاملة ، بعدما تصبح شخصا مسئولا عن حرية رأيك ..
وفي الوقت الذي تعم فيه الضوضاء بسبب الأصوات العالية ، ستكون أنت صاحب الصوت العاقل ، والذي ليس بالضرورة أن يُقنع الجميع ، أو يجذبهم إليه ..
ولكن عساك أن تكون برأيك القويم هذا ، كما قال " عبدالرحمن الكواكبي " :
" كلمة حق ، وصرخة في واد .. إن ذهبت اليوم مع الريح ، قد تذهب غدا بالأوتاد "

نقاط أخيرة :
** هذا المقال أدعي أنه تحليل بسيط لظاهرة لاحظتها ، حاولت أن أتجرد فيه من آراءي في كثير من النقاط ، حتي يخرج بحيادية تخدم الهدف الأساسي الذي أعتقد أن الجميع مؤمنين به ..** أرجو ألا يتعامل البعض معه بنفس الطريقة التي ينتقدها المقال في الأساس ، وهي أن يتم اقتطاع فقرات منه والتركيز عليها نقدا أو اعجابا ، دون النظر الي المقال بشكل كامل ، وإلي المعني الرئيسي الذي حاولت التحدث عنه ...
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة