لهذا أكره السفر

“لو الطيارة مش راح تطير إلا وانت عليها ومش مسجل اليوم… مش حتسافر” هذا ما قاله لي الضابط الفلسطيني على معبر رفح الفاصل بين قطاع غزة وجمهورية مصر العربية عندما حاولت إقناعه بضرورة سفري، وبارتباطي بمؤتمر وبتأشيرة إلى ألمانيا، وقال لي: الجانب المصري يسمح بمرور 350 شخص فقط لا غير في كل يوم، و”بنصحك تروح وماتحاولش”.

قبل أن أسرد لكم تفاصيل ما يجري على المعبر، دعوني أوضح لكم آلية عمله في الوضع الطبيعي، فكل صباح يتواجد الفلسطينيون بداية في صالة خارج معبر رفح كليًا، وبعد التأكد من وجود أسمائهم في الكشف يتم نقلهم بالباصات إلى منطقة JVT وهي منطقة تسبق صالة المغادرة من معبر رفح ويتم فيها فحص الجوازات، من ثم ينتقل المسافرون إلى صالة المغادرة من الجانب الفلسطيني حيث تفحص جوازاتهم من قبل الأجهزة الأمنية، من بعدها يستقل المسافرون حافلة لتقطع بهم مسافة قدرها 50 مترًا إلى صالة القادمين في الجانب المصري من المعبر.

على معبر رفح تكره السفر وتشعر بامتهان فظيع لكرامتك وتشعر بالتمييز وترى المحسوبية والواسطة أمام عينيك وعلى كلا الجانبين المصري والفلسطيني فيما يُعرف بالتنسيقات، وهي أنواع:

تنسيقات الجانب الفلسطيني:

ترى شرطيًا فظًا لا تفارق وجهه التكشيرة يحمل بيديه جهازًا لاسلكيًا وورقة، ويأتي من حين لآخر لينادي على أحدهم بحجة أن الجانب المصري يطلبهم وهم على أربعة مستويات:
واسطة تضع اسمك على لائحة المسافرين في الصالة الخارجية ويعتبر هذا أضعف أنواع التنسيق.
واسطة تدخلك فقط إلى صالة JVT.
واسطة تدخلك بسيارتك الخاصة أو بسيارة أجرة إلى صالة المغادرين ويتم إلحاقك بالباص الموجود في الصالة الفلسطينية.
واسطة تدخلك إلى صالة المغادرين، ومن ثم إلى الباص الذي يستعد للدخول إلى الجانب المصري من المعبر، ويعتبر هذا أقوى أنواع التنسيق من الجانب الفلسطيني "ولازم تكون إنسان واصل جدًا علشان تستمع بهيك تنسيق".

تنسيقات الجانب المصري:

1. واسطة عن طريق معرفة، أو دفع مال لأحدهم على الجانب المصري من المعبر ينجز لك تنسيقًا، وبمجرد دخولك من الجانب الفلسطيني تجد اسمك موجودًا، ويتم منحك موافقة لدخول مصر.

2. واسطة كبيرة جدًا، في الغالب عقيد أو أعلى أو 1000 دولار أو أكثر، وهذه الواسطة تقوم بإرسال اسمك إلى الجانب الفلسطيني، فيأتوا بك حتى لو لم تكن مسجلاً ضمن الكشوفات، ولو كنت خارج المعبر، ومن الممكن أن يقف العمل في المعبر كله إلى أن يجدوك ويتم أخذك بسيارة خاصة أو أجرة، وإدخالك إلى الصالة المصرية مباشرة حتى لو كان المعبر مغلقًا.

هذا يعني أنك لو كنت مثلي من عامة الشعب ولا تمتلك معارفَ ولا تمتلك المال الكافي لدفع ما يلزم للدخول، فأبشّرك أنك لن تستطيع مغادرة قطاع غزة قبل أن تفقد مرارتك أو عقلك، أيهما أسرع تلفًا.

تشاهد على المعبر نساءً تبكي وتلطم وتناشد أن يتم إدخالها للحاق بزوجها، أو لكي تتمكن من علاج أبنائها، أو لحضور فرح ابنتها الوحيدة، ولا إجابة سوى الرفض.. فالجانب المصري لا يقبل سوى عدد محدود، وفي بعض الأيام التي تتم فيها ترميمات للمعبر، يتقلص هذا العدد المحدود إلى أكثر من النصف ليترك طلابًا ومرضى وأصحاب إقامات وأعمال يرجون الله عز وجل أن يسهّل لهم دخول معبر رفح، حتى لو دفعوا أكثر من مالهم ووقتهم وجهدهم، وفي بعض الأحيان يدفعون كثيرًا من كرامتهم.

بمجرد محاولتك السفر من معبر رفح، تشعر بأنك تستجدي شيئًا ليس من حقك، "فالشَّخط" والنّهر سيد الموقف، على الجانب الفلسطيني النهر مستمر والحديث المستمر عن المرجعين، من الجانب المصري يجعلك تشك في أنك ربما تكون زعيم عصابة إرهابية عالمية وأنت لا تدري، وعندما تصل الجانب المصري تسمع فقط أسئلة ولا تسمع إجابات، فبعد وقت ليس بالقليل من الانتظار ربما تدخل وربما يتم إرجاعك، ما يحكم الموضوع هو العدد، وكأننا أصبحنا مجرد أرقام، وأرقام فقط، فعلى معبر رفح لا معنى للحالات الطارئة إلا إن كانت في أنفاسها الأخيرة، ولا معنى لشهادتك العلمية، ولا للحدث الذي أنت ذاهب إليه، ولا لسبب خروجك من غزة، الذي يهم فقط هو العدد فالكل مرتبط بعدد لا يمكنه تجاوزه.

بعض المسافرين، ونظرًا لمحدودية العدد، تم إعادته من على معبر رفح يومين متتاليين ليتمكن من الدخول في اليوم الثالث بعد عناء طويل، هناك لا أحد يهتم، ففي كل الدنيا من يرغب في السفر ليس عليه سوى التوجه إلى المطار أو إلى المعبر الحدودي ليتنقل كيف شاء ويستمتع بسفره، أما عند الحديث عن غزة، فعليك مسح كلمة متعة من جانب كلمة سفر واستبدالها بكلمة عذاب، وعليك أن توَطّن نفسك على المشقة وأن تطلب من أولادك وزوجتك الغفران إن قررت اصطحابهم معك.

لا أدري لماذا نُحجب عن مصر؟ ولماذا تُحجَب عنا ونحن الذين نعشقها ونهواها ونعرف فرقها الرياضية وأغلب أهلنا درس في جامعاتها ومدارسها وكثير من أبطالها استشهدوا على ثرى غزة وفلسطين؟، هي امتدادنا وعمقنا، نحب كل شئ فيها، ولكنها تعاملنا كعدد، نحن نعلم أنها في مخاض عسير وندعو الله لها أن تعود قوية كما كانت دومًا، ولكننا نأمل منها أن تكون رفيقة بنا، أو تكون كما عوّدتنا الحضن الأكبر والأدفأ، أن تكون مصر.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة