الضياع

شارد الذهن.. يَـعُـدّ حَبَــات الأرز في الطبق أمامه، دون أن يأكل، يفكر بعمق لدرجة أنه لم ينتبه إليها وهي تقول لـه وعليها علامات السعادة : "أريد أن أرقص، أريد أن أغنى، لا أستطيع أن أتمالك نفسي من السعادة كلما تذكرتُ أننا سنتزوج بعد يومين فقط من الآن.. وسنسافر إلى الخارج لنعيش سوياً إلى الأبد..! لقد قدمتُ استقالتي من العمل وجهزتُ كل أوراقي من أجل السفر."
لم يسمع كلمة مما قالته، نـَغـَـزَتــهُ بأصابعها قائلةً بدلال: "ما الذي يُـشـغِلُ فِـكرَ حـبـيـبـي، بالتأكيد إنه أنا، لا تـُنـكِـر."
وضع الملعقة ونظر إليها نظرةً أطاحتْ بالابتسامة من على شفتيها وبالفرحة من وجهها..
نظرتْ إليه بحنان وقالت له: "ما بـِكَ ياعُـمري؟ ألستَ سعيدًا مثلي؟!!"
أبعدَ عينيه عنها وقال لها:"أريد أن أخبرك بشيء"
أرتعش جسدُها من كلماته دون أن تعرفَ السبب، وتناولتْ كوبَ الماء من أمامها؛ لتداري مخاوفها..قال لها: "لا يمكننا أن نتزوج"
لم يُـكمِـل كوب الماء طريقه إلى فمها، توقفَ جسدُها عن الحركة تمامًا، وربما قلبها أيضًا.
أكمل قائلاً : "لا أستطيع أن أتركَ زوجتي، تلكَ المرأة التي أحبتني وبذلتْ من أجلي كل شئ.. لا أستطيعُ أن أكون ذلك الرجل الذي يُـقابل كل هذا الحُـبّ والوفاء بالإساءة والخيانة، لا يمكن أن أطـَلِـقـُها بهذه البساطة وأترُكـُهَا وأسافر، خصوصًا أنها لم تـُنجـِـبْ أطفالًا وسأتركها وحيدة.."

أطاحتْ بالكوب فأغرقتْ وجهه بالماء وسط دهشة مَــن بالمكان وصرختْ: "وأنا ، ألم تـُـفكر فـيّ؟؟ ألن تتركني وحيدة أيضًا؟..
إذا كنت لن تستطيع فعل ذلك من البداية لِـمَ ظللتَ تتلاعبُ بمشاعري طوال سنتين؟ لِـمَ جعلتني أضيع من عمري سنتين في حُـبّـكَ؟ وأضيعُ الباقي في محاولة نسيانك..لماذا الآن؟؟!.."
- أنا أيضًا أحِـبُّــكِ لكني لن أستطيعَ أن......

- اخرس،.. لن تستطيع ماذا؟ كل مافي الأمر أنك أناني ولا تحبُ سوى نفسك، أنت لمّ تـُحِـبَـنِي قطـّ..حتى زوجتك التي ستتركني وتعودُ إليها، لا تـُحِـبُـهَا.....

- أيًا كان لنّ أتركها؛ هي لا تستحق مني ذلك.!

- وعملي الذي تركتـُه من أجلك؟..وحياتي التي كنتُ سأتركـُها خلفي من أجلك؟.. وأنا؟ أأستحق منكَ ذلك؟!
ولماذا أخبرتني من قبل أنك قادر على تركها؟؟!

- أنا آسف على كل ماسببته لكِ من أذى، لكني لا أستطيع فعل ذلك؛ هي لم تقدم لي سوى الخير والحنان طوال السنوات الثلاث الماضية، صدقيني، لن أستطيع، لقد كنت أفـتـقِـدُ إحساسَ الأبُــوّةَ، لكني سوف أقنعها بعمل الفحوصات والعلاج اللازم.

- لماذا الآن؟!!

لم يُــجب عليها.. بصعوبة بالغة وقفت على قدميها وأمسكت حقيبتها، وقالت والدموع تغرق وجنتيها: "أنا مصدومة، أنت أحقر إنسان قابلته في حياتي، لكني للأسف.....مازلت أحبك.!" وانصرفت.
بكل هدوء تناول منديلًا ومسح وجهه، فقد كان يتوقع أكثر من ذلك.. لكنه موقف كان لابد أن يحدث. ترك الحساب على الطاولة وهم بالانصراف قبل أن يسمع صوت مكابح سيارة وتهشم زجاج وصراخ بالخارج..!
___________

ارتعد قلبه وخرج مسرعًا ليرى ماحدث،، ليجد المارة وقد تجمعوا،.. ويرى جسدها يسبح في بركة من الدم أمام سيارة يقف سائقها في حالة من الانهيار وهو يصرخ مقسمًا أنها هي من ألقت بنفسها أمامه فجأة، وأحد المارة يؤيد كلامه. أفاق من حالة الذهول التي أصابته وركض إليها.. حملها بين ذراعيه.. حرك جسدها بقوة.. ونادى عليها بأعلى صوته.. لكن.. كان الموت أسرع من الصوت.
___________

حاملًا مفتاح بيته بإحدى يديه، وباليد الأخرى يحمل تلك الهدية التي أحضرها من أجل زوجته.. أيًا كان مايحمله قلبه من حزن على ماحدث فليس لزوجته أي ذنب في ذلك. لقد مــرّ أسبوع على الحادث.. كان ينتوي أن يذهب لها في نفس الليلة لكن بعد الحادث لم يستطع..
فقد كان يحب حبيبتة التي ماتت أيضًا.. يحبها بجنون..!
لكنه لم يستطع أن يترك زوجته من أجلها؛ لأنها لم ترتكب في حقه أي إثم يجعله يتركها وحيدة. لقد اتصل بها وأخبرها أنه سيذهب في عمل لمدة أسبوع حتى يستطيع أن يستجمع قواه مرة أخرى ويذهب إليها. سوف يقدم لها الهدية، راكعًا تحت قدميها، طالبًا منها أن تسامحه على ما مضى، وسيخبرها أنه يحبها جدًا.
ما أن دخل وأبتسم لم يجدها.. إنها المرة الأولى التي لا يجدها في انتظاره عندما يعود..هل بدأ الملل يتسرب إليها من كثرة الإنتظار فخلدت إلى النوم؟! لا يهم.. سوف يوقظها.. وسيقبل أناملها.. ولن يتركها أبدًا.
تقدم إلى غرفة النوم، فتح الباب ليجد المفاجأة، وجد الغرفة مرتبة، والفراش خاليًا..! خرج من الغرفة وبحث عنها في جميع أرجاء المنزل فلم يجدها.. لقد تركت المنزل، هي التي لم تخرج دون إذنه منذ الزواج. دخل ليبحث عنها في غرفة الطعام فوجدها قد أعدت له العشاء قبل أن تنصرف، وتركت له خطابًا فوق المنضدة:
"زوجي العزيز..لا أعلم من أين أبدأ،هل أبدأ بإخبارك أني أحبك؟، أم بإخبارك أني أعلم بخيانتك لي؟ نعم، أحسها قلبي منذ عامين، وعلى مر الأيام كان إحساسي يتأكد، وأعلم الآن أنك معها، ليس بأسبوع عمل كما ادعيت.. مثله كسائر أسابيع العمل التي ادعيتها من قبل وكنت أتصل بعملك لأجد أنك في أجازة، سنتين وأنا أعلم أنك تخونني. كنت أنتظرك كل مساء، وأتزين لك وأنا أعلم أنك مع أمرأة أخرى، كم هو صعب ذلك الشعور..! لم أستطع أن أواجهك، خفت أن تتركني. سنتين وأنا أتعذب، ولا أقوى على الكلام.. 
عزيزي..هناك بعض الأسرار أود أن أصارحك بها: منذ سنة و10 أشهر وأنا أعاني أرق مزمن، لم أعُــد أستطيع أن أنام. عندما كنت تنظر إلىَّ وأنا بجوارك على السرير، وتتوهم أني نائمة وتخرج هاتفك ،وتظلان تتحدثان سويًا طوال الليل. عزيزي.. لم أكن نائمة، كنت أسمع كل كلمة تقولها لها، كم تمنيت أن أنام.. أو أموت وقتها فلا أسمع حديثكما.. كم تمنيت أن أصرخ، لكني لم أستطع.. كنت أنتظر حتى تنهي حديثك وتنام فأنهض لأخذ دوائي الذي أخفيه منك والذي لم أعد أنام بدونه، وأعود إلى فراشي لأبكي حتى أغرق في النوم. سنتان.... كم هي مدة طويلة وكم هو شعور قاسٍ. 
هناك شئ آخر لابد أن تعرفه: فحوصات الحمل اللتي لطالما تشاجرت معي كي أجريها وكنت أرفض..عزيزي لقد أجريت تلك الفحوصات بعد أربعة أشهر من زواجنا وأكد لي الأطباء أني مستعدة للإنجاب في أي وقت، ولا توجد لدي أية مشاكل تمنعني من الحمل والإنجاب. عزيزي المشكلة لديك أنت؛.. لم أخبرك بذلك كي لا أجرح كبرياءك كرجل.
أتذكر عيد ميلادك الأخير؟ أنا أذكره جيدًا.. عندما وجدت هدية في جيب معطفك فأسرعت إلى الحمام وأخرجت هاتفك واتصلت بها كي تشكرها بحماس على تلك الهدية، كنت أنا عند الباب أسمع صوتك؛ يبدو أنك من فرط حماسك وسعادتك لم تنتبه إلى صوتك العالي.
عزيزي.. أنا من وضع لك تلك الهدية في جيب معطفك وليست هي.. ولا أعلم لماذا لم تنكر وضعها للهدية في جيب معطفك؟.. لا عليك؛ فأنا لو مكانها ربما لم أكُــن لأفعل ذلك. لم أرد إخبارك كي لا أذهب عنك السعادة التي رأيتها على وجهك. بها تحقق مرادي من الهدية.
كم هو صعب ذلك الإحساس.. كم بكيت من ليالٍ، وكم دعوت الله أن ينزع حبك من قلبي كي أستريح، لكني لم أستطع.. كل يوم كنت تخرج من البيت أظل أنا أدعو الله وأصلي كي تعود إلي، كان يكفيني أنك تعود إلي كل ليلة حتى وإن كنت قادم من عند امرأة أخرى.. يكفيني أنك بجواري إذا احتجت إليك سأجدك.. حتى سمعتك وأنت تتكلم معها عن سفر وعلمت أنك قد نويت أن تتركني، ولكن كيف؟ 
أنا لم أستطع العيش بدونك. أعلم أنك ستسافر خلال هذه الأيام، لكني لا أعلم الموعد تحديدًا. سمعتك وأنت تتفق معها على كل شيء.. لا أعلم كيف سأعيش بدونك؟؟ ما كان يقويني على جرحي هو أنك بجواري.. تعود إلىّ كل ليلة.. لكن الآن؟ بعد أن تسافر من سأنتظره كل ليلة؟
لن أستطيع العيش بدونك صدقني.. لذا قد فكرت وقررت القرار الصائب. أعلم أن الأسبوع سينتهي اليوم، وأنك سوف تعود لكن كالعادة في وقتٍ متأخر. للمرة الأولى لن تجدني في انتظارك يا حبيبي، وكم هذا يعذبني.. سوف أذهب إلى منزل والدي ستجد طعام العشاء مُــعَدًا على الطاولة مع أني أعلم أنك تتناول عشاءك كل ليلة معها لكني أعتدت على ذلك. سوف أخبرهم أن عملك قد أستدعى سفرك وأني سوف أقيم عندهم بضع ليالٍ. لا تقلق يا عزيزي لن أخبر أحدًا بسرك.. كما حفظته من قبل سأحفظه إلى الأبد. سوف أقيم في غرفة طفولتي مرة أخرى، وأعود إلى سريري الذي طالما حلمت عليه بفتى أحلامي.. تعلم عزيزي أني لا أستطيع النوم بدون دوائي المنوم، لكني هذه الليلة لن آخذ قرصًا واحدًا ككل ليلة.. فلسوف أبتلع كل الأقراص دفعةً واحدة، سوف أريح نفسي من هذا العذاب إلى الأبد؛ لأني لا أستطيع العيش بدونك.. لقد اخترت بيتي وفراشي القديم كي أموت عليها. لأني حقًا أفتقد تلك الأيام.. وكي أبعد عنك عناء إخبار الجميع بخبر وفاتي والأسباب.
قد يتصلون بك ليخبروك قبل أن تقرأ هذا الكلام وقد يخبرونك بعد أن تقرأه.. في جميع الأحوال أود أن أخبرك أني أسامحك، وأني فعلت ذلك لأني لم أستطع أن أتحمل أكثر من ذلك..
___________
وقبل أن يـُــبعد عينيه عن آخر كلمة
دقَّ جرسُ الهاتــــف.


الكاتب:  أحمد الدسوقي  المدوّنة: أي كلام
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة