الأب الروحي لمسرح العرائس المصري

يا حضرة الأراجوز قول لي.. نعم يا عمدة عاوز إيه.. منين يروحوا لمتولي.. امدح نبينا وصلي عليه.. "اللهم صلي عليه"، يعد هذا الديالوج العبقري الدائر بين الأراجوز الذي يتلاعب بالعمدة من تراثنا الثقافي، إذ حينما يقول أحدهم "الوصفة سهلة.. الوصفة هايلة"، يتبادر للأذهان الشكل الكاريكاتيري لشخصية العمدة والأراجوز يقف عاليًا مسيطرًا على الحوار متذكرين بذلك مبدعي هذا العمل سواء كاتبه صلاح جاهين أو ملحنه سيد مكاوي… إلا أن البعض قد يغفل الضلع الثالث لهذا المثلث الناجح وهو المخرج صلاح السقا.

أدرك الفنان المبدع صلاح السقا منذ بداية مشواره الفني أن لغة الحوار بين العروسة والمتلقي تكمن في الإيماءة والحركة والإيقاع، استطاع بذلك أن يتمكن من تكنيك العروسة معتمدًا على دراسة علم التشريح وميكانيزم حركة العرائس.. حتى تؤدي عروستين مختلفتين مع لاعب واحد وفي وقت واحد أداءً مختلفًا ومكملاً لبعضه البعض.

أخرج السقا لمسرح العرائس العديد من الأعمال ومن أشهرها "الديك العجيب، الليلة الكبيرة، صحصح لما ينجح، النص نص، أبو علي، بعد التحية والسلام، عودة الشاطر حسن، الأطفال دخلوا البرلمان، حلم الوزير سعدون ".

كما تعاون السقا مع كثير من مبدعي جيله لتقديم عمل يرتقي بالطفل المصري وينمي قدراته الحسية والجمالية وإرساء قيم مجتمعية بطريقة غير مباشرة، ومن أبرز هؤلاء المبدعين الذين تعاونوا معه "صلاح جاهين، بيرم التونسي، د. يوسف إدريس، سيد حجاب، وعبدالرحمن الأبنودي".

وُلد صلاح السقا في قرية صهرجت الصغرى بمحافظة الدقهلية عام 1932 وبعدما أتم دراسته الثانوية التحق بكلية الحقوق جامعة عين شمس، وانضم إلى فرقة الكلية للتمثيل التي تقدم عملين مسرحيين كل عام، أحدهما على مسرح الريحاني والثاني على مسرح الأزبكية.

عمل السقا بعد تخرجه في الجامعة مع فرقة الثلاثي الصامت "أبوبكر عزت وعبدالرحمن أبوزهرة وزين العشماوي" لتقديم مسرح البنتومايم وكان يؤدي السقا دور من يتغيب عن العرض… ثم قام ببطولة مسرحية "جمعية قتل الزوجات" من إخراج فتوح نشاطي، بعد العدوان الثلاثي انضم إلى الشؤون العامة للقوات المسلحة وقدّم للجيش برنامجًا إذاعيًا يسمى "ركن الجيش".

شاهد السقا لأول مرة في عام 1958 بدار الأوبرا مراحل رسم الديكورات وصنع دمى من الخشب وحياكة ملابسها، وتعرف حينها على الشاعر الكبير صلاح جاهين ومصممة العرائس والمخرجة الرومانية دورينا تنا سيسكو، وأيضًا مصممة العرائس والمشرفة على تنفيذها الرومانية أيون كونستا نتينكو، وجد حينها ضالته في هذا الفن الذي يقدمونه، وانضم إلى ذلك الفريق عام 1959، وقدم مع الفرقة أول عمل مصري للعرائس وهو "الشاطر حسن".

أقنع السقا الفنان "محمود شكوكو" بتكوين فرقة لمسرح العرائس تحت اسم "مسرح شكوكو" وبدوره أقنع شكوكو كلاً من محمد عبدالمطلب وحورية حسن ومحمد محمود شعبان الشهير بـ "بابا شارو" بفكرة تطوير فن الأراجوز وتقديم مسرح عرائس متكامل الأركان، وقدموا آنذاك مسرحية "السندباد البلدي" التي مزجت بين العروسة والإنسان لأول مرة، وحققت الفرقة نجاحًا واسعًا وقدمت بعد ذلك العملين " قهوة الفن" و"الكونت دي مونت شكوكو" .

أصدر الرئيس جمال عبدالناصر في عام 1960 قرارًا ببناء مسرح دائم للعرائس، وتم دمج فرقة شكوكو وفرقة العرائس من أجل تقديم عمل فني تشارك به مصر في مهرجان بوخارست للعرائس في رومانيا، أهم مهرجانات العرائس في العالم آنذاك. اجتمع صلاح السقا وصلاح جاهين وسيد مكاوي من أجل تطوير "الليلة الكبيرة" التي قُدّمت في الإذاعة على شكل "صورة غنائية"، وتم إدخال بعض التعديلات التي تخدم البناء الدرامي للأوبريت، واستطاعت "الليلة الكبيرة" بذلك أن تفوز بالميدالية الفضية في المهرجان.

تلقى السقا منحة دراسية لنيل دبلوم الإخراج المسرحي في تخصص فن العرائس من معهد "سمدريكا" في رومانيا 1961، وبعد عودته قدم مسرحية "صحصح لما ينجح" من تأليف صلاح جاهين وتلحين محمد فوزي، وتوالت بعد ذلك أعماله التي تعد محطات هامة في تاريخ مسرح العرائس المصري، وبعد نكسة 67 انكسر السقا مثلما انكسر كل شيء مبتعدًا عن المسرح، والتحق بالمعهد العالي للسينما ودرس لمدة عامين الإخراج، وكان لهذه التجربة أبلغ الأثر في عمله مع مسرح العرائس، مضيفًا إلى مسرح العرائس تكنيك المسارح الدائرية، وأيضًا المسرح الأسود.

عمل السقا في مناصب عدة، من أبرزها: مدير لمسرح القاهرة للعرائس 1969، وعضو المجلس الأعلى للمسرح، وعضو الهيئة العالمية لفنون ومسارح العرائس AMINU، وأسس فرقة العرائس السودانية بأم درمان 1978 وفرقة العرائس التونسية 1980، وتولى رئاسة البيت الفني للمسرح عام 1988، كما تولى رئاسة المركز القومي للمسرح والموسيقى.

شارك السقا في العديد من المهرجانات العالمية والمؤتمرات الدولية ونال الجائزة الفضية من بوخارست 1960، الجائزة الذهبية في برلين 1973، شهادة تقدير من الولايات المتحدة (هيئة السيموسوينات) 1980، الدرع المميز من مهرجان جرش الأردن 1985، الدرع الذهبي الشارقة 1986، الميدالية الذهبية لمهرجان دول البحر المتوسط بإيطاليا 1986، وتم تكريمه في عيد الطفولة 1997، جدير بالذكر أن المخرج صلاح السقا هو والد الممثل أحمد السقا.

اقترن اسم مسرح العرائس في مصر باسم الفنان القدير صلاح السقا وتجاوزت شهرته حدود مصر والوطن العربي إلى المحافل الدولية محتلاً مكانة بارزة وسط فناني وخبراء العرائس العالميين، وتوُفِّي المخرج الكبير في 25 سبتمبر 2010 عن عمر يناهز 87 عامًا… بعدما كان سفيرًا فوق العادة لفن العرائس المصري.

إنه صلاح السقا عبقري مجاله، أحد الذين نشأوا على ضفاف نيل هذا الوطن وعاشوا في كنَفه في تلك الفترة ما بين اكتشاف المصري القديم لـ "سر التحنيط" و"الفيمتو ثانية"، وسيبقى خالدًا… خلود هذا الوطن هو وكل من أضاؤوا لنا الطريق.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة