مرسال المراسيل: حِكايات اثنينِ أكتُوبَريّ

كُتِبَت هذه الرسالة في أكتوبر 2010

كيف حالك؟
إزيك كده يعني؟ 

أكتب رسالتي هذه وأنا أعرف أنني سأرسلها في الصباح (النت فاصل كالعادة) ولعلها تكون بداية يومك في المستشفى فلا يكون يومًا شريرًا. وأنا كذلك متحمسة لكتابتها، حتى أنني لم أستطع الحكاية لنفسي أولاً في أوراقي، ورغم ذلك لم أرَتب كلامًا بعينه ليُقال. (بعد أن كتبت ذلك حدثتك قليلاً وأنت نائم، وشكلي كدة هعيد الحكاية عشان تبقى صاحي).

صباح اليوم أسلمني جوجل إلى صور قديمة للمنصورة في أوائل القرن العشرين، كانت في منتدًى ما، وجذبتني محاولات للأعضاء لمعرفة المباني التي في الصور وإن كانت مازالت قائمة أم لا، هناك معالم معروفة مثل مسجد (الشيخ حسانين) و(كوبري طلخا) لكن طبعًا المحيط تغير كليّة، عرفت أن هناك مبانيَ لم يتم هدمها إلا مؤخرًا (في العقدين الأخيرين)، وهذا يعني أنها كانت قائمة فترة طويلة جدًا. أتعرف ذلك الوميض الذي يظهر في عقلك فجأة بخصوص أشياء كنت تراها ولا تدركها؟ أدركت أنني قضيت سنوات ألفُّ في دوائر مغلقة، نفس الشوارع ونفس النظرة، اجتذبتني منطقة الجامعة بحكم الدراسة والحيوية أكثر من أماكن أخرى تستحق المعرفة، وكأنني أرى المدينة ولا أعرفها!

اليوم كان ميعاد الدكتور. طبعًا كنت سأنتظر، أول ما فعلت أنْ وقفت في الشرفة المطلة على ميدان الشيخ حسانين أحصر المباني القديمة وأحاول تذكر الصور على قِلّتها، هناك إهمال وغبار وأجزاء متهدمة، لكن تفاصيل صغيرة مثل شكل النوافذ ونقوش دقيقة على الجدران كانت كافية لتريحني، كنت أقول لنفسي: هذا تاريخ لم أعرفه بعد، اتركوه لي قليلاً. ثم تمَشّيت في الميدان ولم أدخل الشوارع التي تتقاطع معه لأنني لم أكن أعرف إلى أين تفضي (كنت خايفة أتوه لأني فاشلة في الاتجاهات وممكن ماعرفش أرجع تاني). قررت أن أمشي في السكة الجديدة قبل أن أترك المنصورة، فأخذت تاكسيًا إلى ميدان المحطة..

في الطريق، كنت أخاف أن يظن السائق أني (سائحة ولا حاجة)، كنت مشدودة إلى المباني المستترة في الشوارع الصغيرة، بل والكبيرة أيضًا.. هناك مبانٍ بارزة الوضوح والقدم في شوارع رئيسية لم أكن ألتفت إليها (مثل مبنى المجلس المحلي للمدينة)، وكما حكيت لك.. عندما وصلت إلى الميدان وبعد أن أخذت اتجاهي، نظرت نظرة خبيثة إلى المحطة وقلت لنفسي: جربي، ممكن ماتتوهيش المرة دي، فلفيت ورجعت تاني في اتجاه المحطة. أحب البهو في بدايتها، السقف العالي يشعرني بأني في فيلم عربي قديم (أو في شقة مصر الجديدة.. حديثًا يعني) وخرجت إلى الجانب الآخر بـ(امرجح) الشنطة في إيدي، أكاد أضحك بجنون أنني أفعلها الآن وسأمشي في الشارع الهادئ الذي لم أمشِ فيه من 10 سنوات! وسأترك كل (الهبل) اليومي في سنين الكليّة على الجانب الآخر ورائي. مدرسة أختي (العائلة المقدسة) كما هي على ناصية الشارع، أنيقة وبنفس لون السور الذي اعتدته. تغير الشارع قليلاً بالذات في بدايته. لكنه عندما يضيق وتبدأ الوِرش في الظهور تظهر معه المباني القديمة التي أعرفها جيدًا.. كنت أخاف ألا أعرف الطريق، لكني مع ذلك كنت ماشية بسرعة (كأن ورايا ميعاد وعايزة أوصل).

حين ظهرت المدرسة أمامي خفق قلبي، لم يفرق معي أن لونها تغير كما رأيته وأنا أتقدم في طريقي، كنت أبحث عن التفاصيل الصغيرة التي أعرفها، الأبواب وإن تغير لونها فإني أعرفها واحدًا واحدًا، والنوافذ بنفس التفاصيل الدقيقة التي كنت أراقب منها المارة بين الحصص. حتى اللافتات الصغيرة البلهاء عن جودة التعليم كنت أبتسم لسخافتها، لا تتّسق وتاريخي مع المدرسة، دائمًا كنت أشعر أنها قديمة -أو لعلها السنين بداخلي- لا تنتمي إلى كومة ترّهات الحداثة في التعليم هذه. وهناك مفارقة عنيفة في أنني أول ما تعلمت الكمبيوتر تعلمته في المدرسة وقت أن كان شيئًا غريبًا كتعليم، كنت أتعذب في التسعينات مع نظام الدوس ذي الأوامر الكثيرة، وكان ويندوز 95 إنقاذًا لعقلي من حفظ الأوامر، وتعلمت بعد ذلك وورد (الذي أكتب لك به الآن) وباور بوينت قبل أن أنتقل للثانوي، كنا نتعلم هذه الأشياء ولا نمثّل أننا نتعلم وهي لم تكن إلزامية حتى.

تقول اللافتة الكبيرة: مدرسة الفرنسيسكان الخاصة للبنات- تأسست سنة 1872، تخيل! 1872.. كانت لي صديقة تحكي لي عن أيام جدتها في المدرسة، كان هذا حقيقيًا.. المدرسة كانت تتخرج منها بنات عائلات بأكملها. ويبدو كذلك أنها في البداية كانت مدرسة داخلية.

في المباني المحيطة بالمدرسة أذكر اثنين تحديدًا، الأول هو (المحكمة الأهلية الكلية) التي مازالت قائمة بنفس لونها وتفاصيلها، وأنا في الصف الثالث الابتدائي كان فصلي مواجهًا للمحكمة، كنا نسمع أصوات المحامين وأهالي المتهمين دائمًا(ويمكنك طبعًا أن تعرف الحكم من أصوات الأهالي)، يبدو أن المدرسة والمحكمة كانتا مصدر الصخب الأساسي في هذا المكان الهادئ.

المبنى الثاني كان بيتًا عتيقًا، تنبعث منه رائحة الملوخية تحديدًا ظهرًا (تقريبًا ماكانوش بيطبخوا غيرها) البيت كان من البيوت الوقورة عالية الأسقف منمنمة الشرفات، وكان مواجهًا لفصلي في الصف الثالث الإعدادي، فصلنا كان واسعًا لدرجة أن بالخلف مكانًا خاليًا من المقاعد بنافذة كبيرة هي المطلة على البيت القديم، كنت بين الحصص أحب الوقوف بجوار النافذة لتأمل المارّين ومراقبة أنشطة سكان المنزل (ومع ذلك ماكانوش بيظهروا تقريبا!)، أحيانًا كانت تتساقط كتل كبيرة من البيت في الشارع وكنت أفكر دائمًا في أن البيت لو انهار قد يكون فصلنا أول الضحايا! اليوم لم يعد البيت موجودًا، وجدت مكانه عمارة عالية لم تنتهي بعد.

انتابتني نشوة انتصار، وكأني أنتصر على القبح الحالي في أيامي وأيام الجامعة الباهتة. وكأن كل شيء يعود لأصله. أنا أكبر وجذوري في مكانها، تتغير طفيفًا لكنها موجودة ويمكنني أن ألمسها بروحي.

عدت أدراجي والشمس تغيب، لمحت لافتة قديمة مكتوب عليها (المنصورة)، تشبه اللافتات التي تراها في أفلام الأبيض والأسود، كان هناك قطار يدخل المحطة، ومسافرون منتظرون. كان قلقي الأول قد اختفى وأنا أمشي في السكة الجديدة من جديد ألمح المباني التي تطل على استحياء من شوارع صغيرة لم أمشِ فيها من قبل عازمة على العودة (بروقان) لأستكشف قبل أن يأتي يوم تضيع فيه. وأخذت كل شيء معي في الطريق، فتحت النافذة في الميكروباص و هواء مساء أكتوبر البارد الذي أحبه على وجهي.. كنت أفتقده، أكره أن تأخذ الامتحانات خريفي الفاتن وبعضًا من شتائي الجميل. نوفمبر هو بداية شهوري المحببة وأكتوبر مقدمتها. ديسمبر ويناير هما شهراي.. حيث برد الجو وسكون الشوارع ودفء الروح. لا تنكر أن هناك شيئًا فاتنًا في مطر الشتاء.. ينطبع في ذاكرتي يوم عودة من الكلية، فيه قطرات المطر تنزلق على زجاج النافذة وصوت عبد الحليم من الراديو يغني (تخونوه) بلحنها الذي أحب. لم تمطر السماء حتى الآن ، تأخر المطر قليلاً.. لهذا لم تبدأ الفتنة بعد.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة