لا يضَحَّى بالحرية لتوفير العدالة، ولا يُتخلَّى عن العدالة لإنقاذ الحرية. – "سالياج".
(1)
جاءت الثورات الحالية لتعيد السيناريو الذي حدث قبل خمسين سنة، ويزيد، في المنطقة العربية التي عاشت ظروفًا مشابهة لما نعيشه اليوم من الثورة والنضال، والحركة الدّؤوبة من أجل التغيير وإرساء قواعد سياسية جديدة. وجاءت هذه الثورات أيضًا محمّلة برياح النهضة والتنمية، والقيام بكل ما من شأنه أن يعلي من قيمة الإنسان وحريته.
وكانت الثورات السابقة هي ثورات في الغالب عسكرية، وجاءت بالعسكر إلى سدّة الحكم، فنقل هؤلاء البنية الفكرية التي تربوا عليها وظنوا أنها هي السبيل الصحيح لإدارة الحياة، وبالتالي إدارة الدولة. فأصبحنا أمام الحزب الواحد، والفكر الأوحد، وانعدمت التعددية، كما تم توسيع المعتقلات والسجون، وتكميم أفواه الإعلاميين.. وسيل طويل عريض من الإجراءات التي عرقلت الإصلاح والتنوير.
وعلى ما سبق، فإن الجموع المشاركة في تلك الثورات شعرت بالخيبة، وضياع الحلم.. وهذا أحدث ردة فعل عكسية ولدت نكسة ثقافية، امتدت إلى نمذَجة الفرد العربي بوصفه شخصًا مخذولاً منكسرًا، ضاعت أحلامه القومية، وكذلك طموحاته الوطنية، وظل الأحرار من المفكرين والمثقفين والسياسيين والأدباء.. وغيرهم، خلف قضبان السجّان، فعليًا أو وجدانيًا.!.
وتدور الرّحى، وتعود عاصفة التصفيق والصراخ إلى ميادين العرب من جديد، وها هي ثورة جديدة وحلم جديد.. في عالم جديد مختلف عما سبق!.
(2)
الثورات العربية الحالية، سعت إلى أن تظهر بصورة مختلفة عن الثورات السابقة، لذلك تم استبعاد العسكر من هذه الثورات، وإعلان الهدف بأنه هدف إصلاحيّ لا ذاتي ولا حزبي ولا تياري، ولكنه هم وطني يجب أن يشارك فيه الجميع.
وتحييد العسكر عن إدارة الدولة، بحد ذاته نجاح كبير؛ لأن زمن العسكر وتجربتهم في المنطقة، وحتى خارج المنطقة، لم يكن مشرفًا في الغالب، وجر الشعوب البريئة إلى الحروب والكوارث والأزمات، وإلى زرع ثقافة زائفة قائمة على الخوف والنفاق والتطبيل، وأوجد ذلك وهم الصنم الذي يعبده الناس طواعيةً، لذلك كان هذا الانتصار العظيم للثورات الحالية منحًى رائعًا ومؤثرًا على المدى البعيد.
كما إن هذه الثورات أعادت الحياة من جديد للمواطن البسيط الذي فقد إنسانيته في خضمّ تهميشه وتخويفه، فجاءت الثورة وأخرجته من سكونه وضعفه إلى أن يتوشّح القوة ويدرك أن له مطالبًا، وأنه هو الحاكم الحقيقي لبلاده لا الحاكم الذي فرض عليهم.. وليته عندما فرض أحسن، بل أساء وأجرم!.
والثورات في كل العالم هي عبارة عن عاصفة، لذلك تتطلب التأمل والنظر في حقيقة الأمر لا في ظاهره، من شعارات معلنة، وهتافات خلابة، وشكليات مثالية.. كلها تمثل سحر المشهد الذي يخطف الألباب ويعمي العيون!.
(3)
(1-3) الثورات العربية، بوصفها فعلاً ثقافيًا ووعيَ فكر، تستحق أن نسلط الضوء عليها عن كثَب، ونحاول أن نشرح المسألة بدءًا من مشروعيتها. وبالتأكيد إن الحرية كقيمة إنسانية لا مزايدة عليها، فهي في قمة الهرم، وعليه فإن الناس أحرار في اتخاذ قراراتهم وتسيير شؤونهم.
ولكن هذا لا يعني أن تكون الثورة مؤيدة في كل مكان وظرف وزمان. فالمصلحة الجمعية مقدمة على المنفعة الفردية، كذلك الهُوية بوصفها منظومة بانية للهيكلة الاجتماعية أمر لا يقبل المساومة. ناهيك أن المعادلة الثورية قائمةٌ على مطالب نابعة من الحاجة التكاملية الضرورية للفرد من جهة، ومن جهة أخرى الوعي الفكري بالحركة السياسية بأنها ذات نظام مشرع ومنفذ وله حق الفصل في المنازعات.
وإذا لم يتوفر ما سبق تصبح الثورة أقرب ما تكون إلى موجة تضرب كل الأركان بقصد أو من دون قصد، وينتج ذلك فوضى من أجل الفوضى، يتم فيها استغلال الأمر للأهداف والمطامع بأشكالها وصورها كافة..
وعليه نجد دولاً عربيةً لم تنجح فيها فكرة الثورة ولم تخرج الناس من أجل التظاهر وقلب الحكم، كالسعودية وقطر والإمارات. ومَرَدّ ذلك إلى أن الأغلبية في هذه الدول تشعر بالمنفعة التي جعلتها تقدمها على منفعة بضعة أفراد. كذلك شعرت هذه الدول أن هناك رغبة إقليمية للمساس بهذه الهُوية، ناهيك أن هذه الهوية بالأساس هي مختلطة من فئات متعددة لو فلت زمام أمرها لوقعت في اقتتال وانفصال. وفي هذه الدول على وجه الخصوص نجد الوضع المعيشي في الغالب لا بأس به وهناك حالة من الارتياح الاقتصادي. ونلاحظ أن أفراد هذه الدول تنقصها الممارسة السياسية بصورتها الحديثة، عبر الأحزاب والانتخابات والتشريعات البرلمانية، وحق التظاهر والتجمعات السلمية.
(2-3) تقف هنا مملكة البحرين، وتدخل قوات درع الجزيرة من أجل إخماد الثورة فيها ، مسألة تحتاج أن نفرد لها نقطة خاصة بها.
فهناك من انبرى يدافع عن حق الشعب في إسقاط آل خليفة من الحكم. وعندما تتأمل البحرين كوضع عام، تجدها لا تختلف كثيرًا عن الدول المجاورة لها، في النقاط التي أشرنا إليها، ولم تتم فيها أي حركة تمردية. بالإضافة إلى أن الدول النفطية في المنطقة، لم تشملها الثورات التي حدثت من قبل، وهذا مؤشر على أن نظام الحكم في هذه الدول له استقلالية مختلفة عن باقي الدول العربية.
فهذه الدول تعلن وتشعر في الآن نفسه، أنها دولة واحدة وإن تعدد حكامها، وذلك عائد للتركيبة القبَلية التي صنعت حكام هذه المنطقة وجاءت بهم منذ القدم، لذلك جاءت منظومة مجلس التعاون الخليجي لتثبت هذه النظرة، بالإضافة إلى المواقف المختلفة التي اتخذتها هذه الدول تجاه قضايا خارجية، كدعم الرئيس العراقي صدام حسين لمواجهة المدّ الخميني للمنطقة، وكذلك رفض احتلال الكويت والعمل على تحريرها من الغزو في بداية التسعينات من القرن الماضي.
لذلك كان إخماد هذه الثورة أمرًا متوقعًا لعدة أسباب، أولها مصلحة المنطقة التي كما أشرت تنظر لنفسها كمنظومة واحدة وأن التفريط في جزء منها هو ناقوس خطر ينبئ بسقوط بقية حكام الخليج العربي. أيضًا شكل الثورة في البحرين أخذ منحًى مختلفًا عن غيره في تونس ومصر، حيث طغت الطائفية على دوار اللؤلؤة كحضور وخطاب ورموز. تبعًا لذلك، انعكس هذا الشحن على الشارع البحريني فحصل قتل وترهيب ونفي من المشهد لأهل السنة والجماعة، والتي تشكل ثقلاً لا يقل عن الثقل الشيعي هناك، وليس كما روّج من أنهم أقلية في البحرين.
وبالإضافة لذلك فلقد كانت إيران، ومنذ قيام الثورة الخمينية فيها، تصرح علانية أن لها أطماعًا في دول الخليج، ونتج عن ذلك إعلانها البحرين ملكًا لها وسعت إلى زعزعة الأمن فيها في تلك المرحلة، كما قامت باحتلال جزر الإمارات الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وكذلك تحريك الذراع العسكري في المنطقة فنتج عن ذلك خطف طائرة الجابرية ومحاولة قتل أمير الكويت جابر الأحمد ووقعت عدة عمليات إرهابية طالت المدنيين بالكويت، وكذلك حركة التمرد في القطيف 1400هـ ولا ننسى الإجرام الذي حدث في مكة من إثارة الشغب وقتل وترويع المسلمين وقت شعيرتهم المقدسة، وهي شعيرة الحج سنة 1406هـ.
وبالتالي ظلت إيران هاجسًا إقليميًا يؤرق المنطقة، خاصة في ظل تسلحها العسكري المتزايد. وفي أحداث البحرين الأخيرة، برزت أصوات إيرانية داعمة ومباركة، حتى حدثت بعض المناورات العسكرية عند مضيق هرمز، مما استدعى دخول قوات درع الجزيرة لحماية المنطقة كمنظومة واحدة، وكذلك لحماية المدنين من الاقتتال فيها بينهم.
ولقد وضح للمتابعين ما نتج بعد دخول قوات درع الجزيرة من تهديد صريح للمنطقة كتصريحات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد المتكررة، وكذلك تصريح رئيس أركان الجيش الإيراني من أن الخليج هويته إيرانية وملك للإيرانيين للأبد وأن على حكام الخليج التنازل عن الحكم، وغيرها من التصاريح.
(3-3) كانت الديمقراطية، كتعبير عن تداول السلطة وإشاعة التعددية، هَمَّ وهاجسَ جموع المشاركين في الثورة العربية. وهذه نتيجة متوقعة بعد احتكار الحكام السلطة لسنوات وبالتالي احتكار صناعة القرار وتسيير شؤون الدولة.
وبعد نجاح ثورتي تونس ومصر، نلاحظ كيف ظهرت أحزاب جديدة، وتكتلات مختلفة ومتعددة، وظهور أصوات كانت في السابق محظورة كحزب النهضة الإسلامي في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر.
ولكن ظلت الديمقراطية كمفهوم أمرًا محيرًا في العقلية العربية . فالتعددية قائمة لدى البعض على نفي الآخر، وهذا يعيدنا لسيناريو البطش باسم الثورة والمحافظة عليها!. فنجد أن هناك نفيًا لكل من يؤيد بقاء النظام السابق في البلد، ووصمه بالعار والدناءة. وأنا هنا لا أتكلم عن القياديين في الحكومة، ولا عن الإعلام الرسمي بوصفه إعلامًا تابعًا لأيَّة سلطة ستتولى تسيير شؤون الناس، أيًا كان اسمها. ولكن هنا أتحدث عن صوت الشارع الذي يؤيد بقاء الرئيس حاكمًا للبلاد؛ لأنهم يرَونه الأفضل، وأن هناك أخطاءً ولكن بقائه يجلب لهم الأمن والاستقرار.
هؤلاء مع الأسف جوبِهوا بأنهم غير أحرار ولا يملكون ذرة شرف! وغيرها من التهم التي تنم في باطنها عن عقلية ترفض التعددية وإن كانت تنادي بها. فما المانع من بقاء الحزب الذي كان يحكم سابقًا، بل ويشارك بالانتخابات أسوة ببقية الأحزاب؟. وما المانع أيضًا أن نقبل بآراء الناس التي تؤيد الحاكم الحالي وتطالب ببقائه؟.
هنا يجب أن نقرر إما أن نكون ديمقراطيين فعلاً، ونقبل بالآخر ونتيح له الفرصة، وإما أن نعلن أننا دكتاتوريون جدد جاؤوا ليحكموا المنطقة كما حكمها الذين من قبلهم!.
(4)
تعتبر الممارسات الحياتية هي عبارة عن دلالات تحمل المخزون الثقافي، خاصة حينما تتكرر وتعطي الناتج نفسه، سواء كانت ظاهرة منتشرة أو ضمنية تغذي الذهن، وهي مفتاح مناسب لبيان وقراءة أيَّة بيئة أو منظومة تنوي تشريح مفاهيمها.
فشعار كشعار الثورة العربية المعلن وهو (سلمية) يرسل رسالة القصد منها هو خُلوّ هذه الثورة من القتال والعنف، ولكنها ثورة تفتح صدرها للأمل بعزيمة لا تمل!. وشعار كهذا هو شعار جذاب وإنساني، ولكن هل تكفي الشعارات أن تبقى شعارات لتحقيقها أم يجب أن تتحول إلى ممارسة لا تقبل النقض؟.
فالمتظاهرون كما لاحظنا من خلال وسائل الإعلام المختلفة، كانوا يستنكرون مجابهة ثورتهم التي يرفعون من خلالها الورد كيف تقابل بالرصاص والقتل والإجرام؟. وكان الأمر مؤلمًا وداعيًا للاستنكار العالمي لما يحدث لهؤلاء العزّل. ولكن جاءت الصدمة حينما تحول مفهوم (سلمية) إلى مجرد شعار لا يتجاوز هذه الحدود. بحيث وقعت ممارسات من قبل المتظاهرين لا تمت لا للإنسانية ولا للسلمية بصِلة، ومع ذلك لم يستنكر هذا الأمر إلا على خجل، بل تم تعتيمه أو نفيه بطريقة لا تختلف كثيرًا عما يقوم به الإعلام الرسمي من تضليل!.
هناك رأي سائد يتقبل إرهاب وعنف الحكومة عسكريًا للمختلفين معها تدعمه حقائق فظيعة موثقة؛ لأنها لن ولم ترفع شعار السليمة يومًا. ولكن أن يقع هذا الأمر من دعاة (السلمية) فهذا قلب للمفاهيم وتحايل على المتعاطفين والمؤيدين. بل إن التشابه بين العمليات الإرهابية التي سوف نشير إليها تحمل مؤشرًا خطيرًا يفضح جهل رافعين الشعار به، وعمق التخلف الفكري الضارب في جذور الثقافة العربية التي لازالت لم تستوعب معنى السلم والسلام، وظل العنف بمفهومه الشمولي قالبًا يتم من خلاله قياس الأفكار والأحداث والرؤى.
ففي اليمن تم قطع لسان الشاعر وليد الرميشي بسبب قصيدة ألقاها يعلن رأي ويمتدح الرئيس علي عبدالله صالح، وفي البحرين تم قطع لسان المؤذن محمد عرفان.
نلاحظ أن هناك عملية (قطع) وبتر لكل من نختلف معه. وهذا القطع هو قطع فعلي وليس مجازي، لذلك لا يقرأ الأمر من باب التأويل، ولكن من باب الإثبات، فنحن أمام حالة اعتداء وليس أمام حالة دفاع عن النفس. فمن أقدموا على هذه الفعلة هم يقطعون لسان أبرياء عزّل مثلهم ليسوا من العسكر الذين يرفعون السلاح. بل حتى هؤلاء العسكر تعرضوا لعملية بشعة وقذرة، كعملية دهس الجندي في البحرين بالسيارة. ما حدث مع هؤلاء الأبرياء هو إرهاب وجريمة لم يستنكرها أحد من أرباب شعار (سلمية.. سلمية).
وهناك ملمح آخر وهو أن من تم قطع لسانيهما هما أصحاب منابر ثقافية، فأحدهما شاعر والآخر مؤذن. وهنا لم يتم قطع لسانيهما فقط، بل هي دلالة وإشارة على قطع لسانين من ألسنة الثقافة، أي قطع صوت الناس عن التعبير عن آرائهم وما يؤمنون به. هو قطع لصوت الحرية التي لم تشملها بركتها هؤلاء الأبرياء. هو قطع لفكرة الاختلاف والتعددية والديمقراطية والإنسانية. هو قطع روح الثورة وسمو فكرتها ونبل شعارها!.