ليس ما أكتب عنه حادثة قريبة، ولا ذكرى سعيدة، ولا أدري لمَ لم أكتب عنها في وقتها؟! هكذا أنا ألجأ للصمت كثيرا، أدون مع نفسي خواطر، تبقى في قلبي، أقلبها أياما وشهورا، تُنبت بداخلي معاني جديدة أرى بها العالم بشكل جديد في كل مرة. والحقيقة أنني أجهل بالتحديد ما يدفعني الآن للكتابة في هذا الموضوع، لكن كل ما أعرفه هو أن ثمة رغبة عارمة بداخلي للكتابة، فاستمعوا لي إن شئتم وشاركوني.
قبل ما يزيد عن عام، دق جرس هاتفي، نظرت لشاشته لأجد المتصل رقما خاصا، أجبت فإذا بها موظفة من القنصلية الأمريكية في القدس، تخبرني أنه وأخيرا سيتم تجديد جواز سفري الذي كدت أنسى أين أحتفظ به، وتطلب مني الحضور بعد أسبوع إلى معبر إيرز لإنهاء الإجراءات هناك. شكرتها، وأغلقت الهاتف، ولم أفكر مطلقا في أمر الجواز وإجراءاته، بل رحت أسرح بخيالي نحو معبر إيرز، أقصى نقطة شمالية تربط قطاع غزة بإسرائيل. فأنا لم أصل يوما إلى ذلك الحد الأقصى، كل ما أعرفه عن فلسطين التي عشت فيها منذ طفولتي هو قطاع غزة، ذلك الشريط الضيق الملقى على ساحل البحر الأبيض المتوسط بطول يصل إلى أربعين كليومتر، وبعرض عشرة فقط.
عندما كنا صغارا، كانت المدرسة تأخذنا رحلة كل عام تجوب قطاع غزة من شماله حتى جنوبه، أبعد رحلة يمكن لأي باص أن ينجزها، هكذا كنا نظن، حتى إذا انتهت الرحلة قبيل المغرب عدنا متعبين إلى بيوتنا فقد وصلنا إلى الحدود! هذا كل ما أعرفه من فلسطين 360 كم مربع لا أكثر.
لم أر يوما القدس، ولا الجليل بالطبع، ولا حتى رام الله أو الخليل، تلك المدن أبعد من القارة الأمريكية، وكل بلاد العالم. أذكر ذات مرة عندما كان والدي يصطحبنا بالسيارة ما بين مدينتي غزة وخانيونس حيث نزور أقاربي، أننا مررنا بوادي غزة، سألت والدي يومها عنه، فأخبرني أن المياه كانت تصب من جبال الخليل في هذا الوادي قديما، تخيلت حينها أن مدينة الخليل قريبة جدا، وشعرت لأول مرة أن قطاع غزة مرتبط بباقي فلسطين، ورحت أتخيل تلك الجبال والمياه كيف كانت تنساب، أتشبه الجنة التي سنذهب إليها بعد أن تنتهي حياتنا أم أجمل منها؟ ويوقف خيالي ذلك الجندي الإسرائيلي المرابط على الحاجز يفحص هوية أبي وأمي، ثم يبتسم لي ويعرض عليّ بعض الحلوى، فأصاب أنا بالتشوش، هل آخذ الحلوى؟ هل أبادله بابتسامة؟ فأتذكر فورا تعليمات أمي بأن لا آخذ أي شيء من الغرباء، فأرد شكرا، فيبتسم ذلك الجندي مرة أخرى، سامحا لوالدي بمواصلة الطريق. يا إلهي هل سأرى جنودا إسرائيليين مرة أخرى عندما أصل معبر إيرز؟
ووصلت إلى الجانب الفلسطيني من المعبر، عفوا هناك جانبان فلسطينيان، الأول يتبع للحكومة الفلسطينية في غزة، وهو خارجي، أما النقطة الأخرى فتديرها السلطة الفلسطينية التابعة لرام الله، هناك سمعت لأول مرة ومنذ وقت بعيد موظفين فلسطينيين يتحدثون العبرية عبر الماخشير -أي الجهاز اللاسلكي-، لينسقوا دخول الأفراد مع الجانب الإسرائيلي.
حتى تلك اللحظة لم أكن أرى أي ملمح غير فلسطيني، كان أمامي ممر طويل جدا ومغلق، قالوا بأنه يؤدي إلى الجانب الإسرائيلي، وأن علينا أن نمشي في هذا الممر ما يقارب خمس عشرة دقيقة، حتى نصل إلى الصالة الإسرائيلية، ووصلت هناك. لتبدأ إجراءات التفتيش، والتي كان يقوم بها شخص تبدو عليه بوضوح الملامح العربية، ويتحدث باللهجة الفلسطينية الخالصة، ولم أدر حقيقة هل هو من عرب الداخل أم من القطاع، لكنه على الأغلب من عرب إسرائيل، وأنا أقصد تلك الكلمة بمعناها المجرد. وضعنا كل شيء بحوزتنا في الصندوق، ودخلنا فردا فردا جهاز التفتيش الإشعاعي للأفراد، لم يكن ذلك الرجل العربي الملامح هو الذي يتحكم في هذا الجهاز، لقد كانت تتحكم به مجندة إسرائيلية لم نكن نراها ولكن نسمع صوتها وهي تعطي تعليماتها للرجل بالعبرية من خلف الشبابيك الزجاجية المغلقة في الطابق العلوي المكشوف على الصالة التي نقف بها، كل ذلك كان متوقعا وطبيعيا بالنسبة لي، صحيح أنه كان مستفزا لكن ما أثار حنقي، ذلك المشهد عندما جاء دور طفل لم يبلغ الرابعة من عمره، لدخول جهاز التفتيش، وهو أشبه بغرفة صغيرة دائرية يلفها زجاج شفاف، يقف فيها الشخص مباعدا بين رجليه ورافعا يديه، يلف الجهاز لفة سريعة، تأخذ صورة إشعاعية تصدر صوتا يخيف فتى صغيرا هكذا.
تردد الطفل قبل الدخول، دفعته أمه مشجعة، وقف تلك الوقفة، أصدر الجهاز صوته، فارتج الطفل، أوقف الجهاز، ظن الطفل أن المهمة انتهت، لكنه عاد بأمر من المجندة الكرة من جديد. كدت أبكي على هذا الطفل، الذي لم يكن يخفي بكل تأكيد أي شيء تحت ملابسه التي كانت ترتعش من الخوف.!
يا إلهي، كل الذكريات القديمة عادت لمخيلتي، ذكريات الجنود الإسرائيليين وهم يدقون باب بيتنا بعنف الساعة الثانية فجرا ونحن نيام، صائحين: "افتخ باب!" وصورة الجنود وهم يدخلون غرفة النوم بأحذيتهم المتسخة، فأمسك بصدري أخشى أن يتمزق من تسارع نبضات قلبي، فيتسلل لقلبي صوت جندي وهو يقرأ كل مساء سورة ياسين مكررا آية: ”وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون” عشرات المرات، فأهدأ قليلا، ثم يخرج الجنود، لينتقلوا إلى بيت جارنا، نسمع أصواتهم وهم يدخلون المطبخ، يعيثون به فسادا، ثم يخرجون، فيُحدثني جارنا صباحا عندما أذهب لأشتري من دكانته عن ما صنعه الجنود ليلا، ويسألني ماذا صنعوا في بيتنا.!
كل الذكريات تزاحمت في عقلي وأنا أسمع صوت تلك المجندة وأرى هذا الطفل الذي لم يرى الجنود الإسرائيليين من قبل عيانا، أشفق عليه وعلى نفسي. حتى إذا ما انتهينا من إجراءات التفتيش، انتقلنا لصالة أخرى، لبدء إجراءات تجديد الجواز حيث يتواجد وفد من السفارة، يتعاملون معنا بمنتهى الإنسانية والحضارة والرقي، الحمد لله، الآن أصبحنا أجانب، بعد أن كنا قبل دقائق فقط فلسطينيين إرهابيين. ما هذا التناقض الذي أعيشه؟! وجلست بصمت أنتظر دوري لبدء الإجراءات وأنا أرمق ذلك الشاب الإسرائيلي، الذي يلبس ملابس مدنية، حاملا على كتفه سلاحه، ويمشي بلا مبالاة أمامنا يتحدث إلى زملائه، ويراقبنا من بعيد، فيستفزني لأسأله: من أي بلاد الله أتيت أيها الشاب الأشقر؟ وكم تظن أنك ستمكث هنا؟ وهل تفكر في أن تهاجر من إسرائيل أم تعجبك الحياة؟ ألا تخشى على نفسك وأنت تعمل في معبر إيرز بالقرب من قطاع غزة، لماذا تخاف مني أنا لست فلسطينية الآن؟! ولماذا خلعت لباسك العسكري؟ لم تحمل سلاحا وأنت تلبس لباسا مدنيا؟ أليس هذا مخالفا للقوانين عندكم؟ فيقطع حديثي مع نفسي صوت الموظفة من السفارة تخبرني بأن دوري قد حان، أنهيت الاجراءات عائدة إلى الجانب الفلسطيني عبر ذلك الممر الطويل، لأجد زوجي في انتظاري، فيسألني عن الحال، فأجيب: علاء، أود الصراخ عاليا أرجوك..!
عندما كنا صغارا، كانت المدرسة تأخذنا رحلة كل عام تجوب قطاع غزة من شماله حتى جنوبه، أبعد رحلة يمكن لأي باص أن ينجزها، هكذا كنا نظن، حتى إذا انتهت الرحلة قبيل المغرب عدنا متعبين إلى بيوتنا فقد وصلنا إلى الحدود! هذا كل ما أعرفه من فلسطين 360 كم مربع لا أكثر.
لم أر يوما القدس، ولا الجليل بالطبع، ولا حتى رام الله أو الخليل، تلك المدن أبعد من القارة الأمريكية، وكل بلاد العالم. أذكر ذات مرة عندما كان والدي يصطحبنا بالسيارة ما بين مدينتي غزة وخانيونس حيث نزور أقاربي، أننا مررنا بوادي غزة، سألت والدي يومها عنه، فأخبرني أن المياه كانت تصب من جبال الخليل في هذا الوادي قديما، تخيلت حينها أن مدينة الخليل قريبة جدا، وشعرت لأول مرة أن قطاع غزة مرتبط بباقي فلسطين، ورحت أتخيل تلك الجبال والمياه كيف كانت تنساب، أتشبه الجنة التي سنذهب إليها بعد أن تنتهي حياتنا أم أجمل منها؟ ويوقف خيالي ذلك الجندي الإسرائيلي المرابط على الحاجز يفحص هوية أبي وأمي، ثم يبتسم لي ويعرض عليّ بعض الحلوى، فأصاب أنا بالتشوش، هل آخذ الحلوى؟ هل أبادله بابتسامة؟ فأتذكر فورا تعليمات أمي بأن لا آخذ أي شيء من الغرباء، فأرد شكرا، فيبتسم ذلك الجندي مرة أخرى، سامحا لوالدي بمواصلة الطريق. يا إلهي هل سأرى جنودا إسرائيليين مرة أخرى عندما أصل معبر إيرز؟
ووصلت إلى الجانب الفلسطيني من المعبر، عفوا هناك جانبان فلسطينيان، الأول يتبع للحكومة الفلسطينية في غزة، وهو خارجي، أما النقطة الأخرى فتديرها السلطة الفلسطينية التابعة لرام الله، هناك سمعت لأول مرة ومنذ وقت بعيد موظفين فلسطينيين يتحدثون العبرية عبر الماخشير -أي الجهاز اللاسلكي-، لينسقوا دخول الأفراد مع الجانب الإسرائيلي.
حتى تلك اللحظة لم أكن أرى أي ملمح غير فلسطيني، كان أمامي ممر طويل جدا ومغلق، قالوا بأنه يؤدي إلى الجانب الإسرائيلي، وأن علينا أن نمشي في هذا الممر ما يقارب خمس عشرة دقيقة، حتى نصل إلى الصالة الإسرائيلية، ووصلت هناك. لتبدأ إجراءات التفتيش، والتي كان يقوم بها شخص تبدو عليه بوضوح الملامح العربية، ويتحدث باللهجة الفلسطينية الخالصة، ولم أدر حقيقة هل هو من عرب الداخل أم من القطاع، لكنه على الأغلب من عرب إسرائيل، وأنا أقصد تلك الكلمة بمعناها المجرد. وضعنا كل شيء بحوزتنا في الصندوق، ودخلنا فردا فردا جهاز التفتيش الإشعاعي للأفراد، لم يكن ذلك الرجل العربي الملامح هو الذي يتحكم في هذا الجهاز، لقد كانت تتحكم به مجندة إسرائيلية لم نكن نراها ولكن نسمع صوتها وهي تعطي تعليماتها للرجل بالعبرية من خلف الشبابيك الزجاجية المغلقة في الطابق العلوي المكشوف على الصالة التي نقف بها، كل ذلك كان متوقعا وطبيعيا بالنسبة لي، صحيح أنه كان مستفزا لكن ما أثار حنقي، ذلك المشهد عندما جاء دور طفل لم يبلغ الرابعة من عمره، لدخول جهاز التفتيش، وهو أشبه بغرفة صغيرة دائرية يلفها زجاج شفاف، يقف فيها الشخص مباعدا بين رجليه ورافعا يديه، يلف الجهاز لفة سريعة، تأخذ صورة إشعاعية تصدر صوتا يخيف فتى صغيرا هكذا.
تردد الطفل قبل الدخول، دفعته أمه مشجعة، وقف تلك الوقفة، أصدر الجهاز صوته، فارتج الطفل، أوقف الجهاز، ظن الطفل أن المهمة انتهت، لكنه عاد بأمر من المجندة الكرة من جديد. كدت أبكي على هذا الطفل، الذي لم يكن يخفي بكل تأكيد أي شيء تحت ملابسه التي كانت ترتعش من الخوف.!
يا إلهي، كل الذكريات القديمة عادت لمخيلتي، ذكريات الجنود الإسرائيليين وهم يدقون باب بيتنا بعنف الساعة الثانية فجرا ونحن نيام، صائحين: "افتخ باب!" وصورة الجنود وهم يدخلون غرفة النوم بأحذيتهم المتسخة، فأمسك بصدري أخشى أن يتمزق من تسارع نبضات قلبي، فيتسلل لقلبي صوت جندي وهو يقرأ كل مساء سورة ياسين مكررا آية: ”وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون” عشرات المرات، فأهدأ قليلا، ثم يخرج الجنود، لينتقلوا إلى بيت جارنا، نسمع أصواتهم وهم يدخلون المطبخ، يعيثون به فسادا، ثم يخرجون، فيُحدثني جارنا صباحا عندما أذهب لأشتري من دكانته عن ما صنعه الجنود ليلا، ويسألني ماذا صنعوا في بيتنا.!
كل الذكريات تزاحمت في عقلي وأنا أسمع صوت تلك المجندة وأرى هذا الطفل الذي لم يرى الجنود الإسرائيليين من قبل عيانا، أشفق عليه وعلى نفسي. حتى إذا ما انتهينا من إجراءات التفتيش، انتقلنا لصالة أخرى، لبدء إجراءات تجديد الجواز حيث يتواجد وفد من السفارة، يتعاملون معنا بمنتهى الإنسانية والحضارة والرقي، الحمد لله، الآن أصبحنا أجانب، بعد أن كنا قبل دقائق فقط فلسطينيين إرهابيين. ما هذا التناقض الذي أعيشه؟! وجلست بصمت أنتظر دوري لبدء الإجراءات وأنا أرمق ذلك الشاب الإسرائيلي، الذي يلبس ملابس مدنية، حاملا على كتفه سلاحه، ويمشي بلا مبالاة أمامنا يتحدث إلى زملائه، ويراقبنا من بعيد، فيستفزني لأسأله: من أي بلاد الله أتيت أيها الشاب الأشقر؟ وكم تظن أنك ستمكث هنا؟ وهل تفكر في أن تهاجر من إسرائيل أم تعجبك الحياة؟ ألا تخشى على نفسك وأنت تعمل في معبر إيرز بالقرب من قطاع غزة، لماذا تخاف مني أنا لست فلسطينية الآن؟! ولماذا خلعت لباسك العسكري؟ لم تحمل سلاحا وأنت تلبس لباسا مدنيا؟ أليس هذا مخالفا للقوانين عندكم؟ فيقطع حديثي مع نفسي صوت الموظفة من السفارة تخبرني بأن دوري قد حان، أنهيت الاجراءات عائدة إلى الجانب الفلسطيني عبر ذلك الممر الطويل، لأجد زوجي في انتظاري، فيسألني عن الحال، فأجيب: علاء، أود الصراخ عاليا أرجوك..!