أبلة زينب ومسيو تامر

كانت مدارسنا صغيرة بسيطة.... ولكنها كانت تعلّم..... وكان أباؤنا فقراءً طيبين، ولكنهم كانوا يستطيعون التربية بالفعل.
لن أقول لكم مثلما كان يقول أبي.. (كنا نشوف المدرس جاي من أول الشارع.. نحود يمين أو شمال).. لن أقول هذا ولكننا كنا نحترمهم ونوقرهم.. نهابهم ولا نخاف منهم.. ترتعش أصواتنا عند الكلام معهم لكننا في نهاية العام نرتمي في أحضانهم فرحًا بما حققناه من نجاح.. ( هذا حتى نهاية المرحلة الاعدادية.. أما الثانوية فأرجوك راجع بوست قصتي مع شكري، والتي تروي جانبًا هامًا مما حدث لي بالمرحلة الثانوية).

كان من أهم من علموني بالمرحلة الابتدائية سيدة فاضلة تسمى أبلة زينب حسين (اللهم ارحم من علمني) وكانت تدرس لنا وكأنها تدرس لأبنائها.... يشتاط غضبها إذا ما اخطأ أحدنا في درس انتهت من شرحه للتو... وتطير فرحًا بنا عندما تسمع إجاباتنا الصحيحة على سؤال طرحته وكان البونبون في حقيبتها كبئر بترول لا ينتهي، تعطي منه الشطار أولا ثم من أخفق لتحثه على التركيز وتمنيه بالكثير منه إذا أجاب صوابًا في المرة القادمة....
كان فصل أبلة زينب كالمسجد لا همس فيه ولا ضحك –ترمي فيه الإبرة ترن- نتحرك فيه على أطراف أصابعنا كراقصي الباليه، كما كانت نظرة واحدة منها تكفي لردع من تسوّل له نفسه الخروج عن النظام.
لم تكن أبلة زينب تعمل وحدها، وإنما كانت هناك منازل تربي تمامًا كما كانت أبلة زينب تعلم.
تعلمنا في بيوتنا احترام الكبير وخفض الصوت وغض البصر تعلمنا أن كل "بنات الحتة" أخواتنا، وأن سيداتها أمهاتنا، وكل الرجال آباؤنا وإخواننا الكبار...... كنا نسابق بعضنا لنحمل كيسًا أو حقيبة من يد أم صديق لنا أو جار..... كنا نخفض أصواتنا في سهرات الصيف الممتدة بالشارع إذا ما اشتكى جار، أو نصالحه بحاجة ساقعة في الصباح لأننا أحسسنا -ولو إحساس- بأننا أقلقنا منامه..... صدقوني، هذه ليست حكايات الزمن الجميل إنها حقائق عشتها بكل تفاصيلها ولازالت تعيش معي....

لماذا تذكرت كل هذا الآن؟ ولماذا هاجت في نفسي الذكريات؟؟ ربما لأني أحن لهذه الايام!! ربما.. أو ربما لأنني تذكرتها نتيجة ما حدث معي منذ أيام..

طائرة باريس تستعد للاقلاع من مطار شارل ديجول وهي ممتلئة عن آخرها، وفي مقدمة الطائرة يجلس مجموعة من الطلبة أولاد وبنات مصريون في تلك المرحلة السنية "الغلسة" -المرحلة الإعداديه- يتكلمون الفرنسية بطلاقة ونصفهم يحمل الباسبور الفرنسي، ويتعاملون مع بعضهم البعض بصوت عالٍ وخشونة غريبة لا أفهم لها معنى.

كان البهوات أبناء الباشوات في فرنسا يحضرون معسكرًا صيفيًا من تلك المعسكرات التي تقيمها العديد من المدارس الدولية الموجودة بمصر خارجها.. ما علينا واحنا مالنا خلينا في حالنا.. وما إن بدات الطائرة في التحرك حتى رفع أحدهم "جاعورته" وقال بفرنسية مشمومة (السلام الوطني لمصر). وفوجئنا بجميع من حوله ينشد السلام الوطني المصري.. بلادي بلادي.. مترجمًا باللغة الفرنسية.. وعلى أنغام موسيقى تشبه نشيد المارسليز الشهير (السلام الوطني الفرنسي).
لا أعلم لماذا أحسست بالقرف.... هل لأنى أحمل شعورًا ضدهم بأنهم لا يعيشون في مصر التى نعيشها ويتبرأون من سلامنا الوطني ولغتنا العربية؟ أم لأنهم يمثلون أبناء طبقة الأغنياء الجدد الذين امتلأت بهم حياتنا؟.. لا أعلم!!.. ولكن الذى علِمته فعلاً بعد ذلك أن إحساسي كان بمحله تمامًا..!!!

ما إن استوت الطائرة في السماء وبدأنا عملنا حتى سمعنا هرجًا ومرجًا، وهؤلاء الصبية والصبايا قد قلبوا كابينة الطائرة رأسًا على عقب...... إنهم يلعبون!!! لقد بدأوا "هزارهم" السمج.... أخذ كل واحد منهم يرمي زميله بالمخدة.... يا حلاوة.... لا إحساس ولا استماع لنصيحة أحد!!!! اقعد يا بابا عيب كدة...... يا ابني ما يصحش فيه ناس غيركم في الطيارة..... يا حبيبى ما تخليناش نتنرفز عليكم!!!! كان قائل الجملة الاخيرة عجوز سبعيني العمر قالها بعد أن لبس مخدة في دماغه أثناء نومه!!!

وكان رد أحدهم غريبًا عجيبًا...... تتنرفز على مين يا عم الحج؟؟؟؟.... اتكلم على قدك!!!.... قالها بمصرية خالصة آتية من تلك الشوارع الخلفية لقسم العمرانية. كان صوت الولد جهوريًا مدويًا لدرجة أننى أحسست أن الطائرة كلها قد صمتت لتسمع رد الرجل....
فوجئ الرجل بالكلام المهين فتهدج صوته ورد وهو يحاول التحكم في يده التي ترتعش..... إنتوا عيال مش متربية.... إنتوا مالقيتوش حد يربيكم.... إنتم مين المسئول عنكم؟؟؟ فين الأستاذ اللي معاه العيال دي؟؟؟
أخذ يصرخ في الكابينة عدة مرات.... إلى أن توجه إليه شاب طويل الشعر "يمضغ لبانة" وهو يقول:. أيوة حضرتك.. فيه حاجة؟؟ أنا مسيو تامر المسئول عن الأولاد..

رد الرجل غاضبًا: فيه حاجة؟؟ هو انت كنت نايم؟ ماشفتش اللي حصل؟ إنتم مدرسة إيه؟! العيال دي يا أستاذ ماشافتش تربية!!!

رد مسيو تامر غاضبًا (وعليك أن تتخيل غضبه): لا من فضلك.. إحنا أحسن مدرسة فرنساوي دولي في مصر والأولاد دول ولاد أكبر وأغنى ناس في البلد.
اشتاط الرجل وهو يسمع كلام مسيو تامر والذي كانت تكفي كلمة اعتذار بسيطة منه لإنهاء الموضوع كله.. فرد عليه:
بالمناسبة بقى الحكاية مش حكاية فلوس.... دي تربية والعيال دي كلها ماتعرفش الأدب لأن لو فيهم واحد متربي ما كانش رد على واحد في سن جده كدة....بس أقول إيه؟؟؟ لا فيه أب ولا أم يربوا والأستاذ بتاعهم بلبانة.. الله يلعن أبو دي مدارس دولية يا شيخ..

انسحب تامر في هدوء بعد أن قابل سيلاً عارمًا من غضب الرجل فآثر السلامة، وبعد أن سمع العيال كلام الرجل عرفوا أنهم على أعتاب معركة ضخمة لن يكون باقي الركاب معهم فيها، فآثروا الهدوء واكتفوا بتلقيح الكلام على الرجل الذي أبدل مقعده مع أحد الشباب الذى يبدو عليه أنه من أبطال كمال الأجسام، والذي استهلّ جلسته على مقعده بصوت عال قائلاً: أنا لما بتنرفز إيدي بتسبق لساني!! فصمت الجميع حتى نهاية الرحلة.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة