رسم الحبيبة " من أوراق الورد"

(( ولما أهدت إليه رسمها كتب إليها )) :

كنت ساعة أجلس للكتابة إليك، أراني كالمصور، غير أني أنقل من عالم في داخلي؛ أما الآن ورسمك يملأ عيني، فقد أضيف إلى عالمي المضطرب بأخيلته الكثيرة عالم من الجمال الصافي، هو فوق ذلك كالسماء فوق الأرض: تحييها بالشمس والقمر، وهو من وراء ذلك كالآخرة وراء الدنيا : تطمعها بالجنة والخلد.

ولكدت والله يا حبيبتي أتخيل هذا الرَّقّ – كلمة استعملها الرافعي لهذا الورق المقوى الذي تكون عليه الصورة الفوتوغرافية – الموضوع أمامي يبرقُ بصورتك ويشرق بوجهك نافذة سحرية فتحت بيني وبين عالم الجمال الأزلي فأطل فيها وجه حوراء من حور الجنة ينظر إلي وأنظر إليه، يحمله جسم خُلق ليكون فتنة للجنة ذاتها، وكأنه بجماله ومعانيه حقائق ذلك النعيم جاءت تترجم لذة الخلود للنفس البشرية في بلاغة مصورة اختاروا لها رسمك أنت.

وهل في الحسن أحسن من هذا الوجه الذي يرف على القلب بأندائه ويتلألأ بنضرته، حتى لكأنه خُلق من نور الفجر، وكأن علامة الفجر فيه إنما هي هذا الروح الذي يحيط القلب من وجهك بمعان كنسمات الصبح، عليلة من شدة الرقة، ذابلة من فرط الجمال، مملوءة من روح الندى بما يجعلها حول النفس كأنها جو من شعور حي فرح لا نسمات في الجو؟

وجه منظر يفزع لحسنه من يراه، كأن شيئا بدعا لم يكن ممكنا فأمكن ! أو كأن في حمرة خديه وشفتيه خمر القلب رؤيتها شر بها، وفيها السكر بالجمال والنشوة بالهوى، فما هو إلا أن ينظر وجهك الناظر حتى يخالط قلبه.

وعلى ما رأيت هذا الوجه الفاتن، فما رأيته من مرة إلا حسبتها أول مرة، وكانت معه لنفسي جمحاتها الأولى، كأن الحب الذي بدأ في أول نظراتي إليه يبدأ في كل نظرة إليه بدءا جديدا؛ وأرى جمال الوجوه يخاطب في حاسة الإعجاب ولا يعدو هذه العاطفة، وأرى وجهك أنتِ يبلغ القصوى ويأخذ بقلبي كله ويستولى على جملة ما في إنسانيتي.

وإني لألمح فيه سرا عجيبا يكون فقدان العبارة عنده هو أبلغ العبارة في وصفه، إذ لا تتكلم روعة الحس بالجمال، وهي تنزل في صور الألفاظ، وإنما تغمز على القلب غمزة خافتة تشعر الناظر أنّ روح المنظر خامرت الروح وأن حياة الشكل انسكبت في الحياة، وأن المعنى الغامض في السر اتصل بالمعنى الغامض في النفس.

وبمثل هذا السر الذي يطالعني من جمال وجهك أصبح الجمال على الحقيقة هو علم أفراح النفس وأحزانها، وعاد الشخص الجميل المعشوق وما هو بكل معانيه إلا الفن الفلسفي الكامل أُتيح لنفس أخرى تحاول بالحب أن تكون كاملة.

ومن هذا السر يظل وجه الحبيب جديدا على كل نظرة من محبه وإن طال ترداد النظر وتكراره، كأن الوقت لا يمضى معه كما يمضي مع الأشياء، وكأن الحب أبدية على قدر ما تحتمل الدنيا، ولهذا فهو يضغط على القلب لا بالساعة ولا باليوم، بل يجثم بقطعة ضخمة من الزمن كأنها عمر كامل فرحها شديد شديد، وحزنها شديد شديد.

سر عجيب، فكرت طويلاً كيف أسميه فلم يستوِ لي، وقد جل أن يقع معناه في كلمة، ولكني أسميه المعنى المتفرق المجتمع، إذ هو بجملته ظاهر في الوجه كله، وهو بجملته أيضا ظاهر على مقدار ذلك في كل موضع من قسمات وجهك ومعارفه، كأنه لا أجزاء له ولا جملة كأنه شئ أبدي، كأنه في وجهك تأله الحب.
ومن بعض هذا السر تلك الابتسامة الواقعة على ثغرك ترق فيها الروح مرة وتتكاثف مرة، حتى كأنها – وهي في الرسم – لون روحي ظهر يتموج على شفتيك، فما أقلّب فيه عيني إلا شعرت أن روحي تذوب فيه كما يتمازج لونان في السماء على الشفق الأحمر.

ومن بعضه هذه النظرة الحية التي تبعث في كل معنى من معانيك حياة وتخلق منه لعيني فكرة أتلمحها فيه، حتى ليروعني من أثرك عليّ وأنا أنظر إلى رسمك، أني أتخيل نفسي بجملتها أسئلة وجسمك هذا بجملته أجوبتها !

نظرة ساحرة تجعلني أرى كل شئ في رسمك محدودا، ومع ذلك أراك أنت غير محدودة في شيء ! كأن لك فيضا من الجمال والسحر يستغرق العالم ويغمر الكون ولا يكتفي بما ينتهي دون ما لا ينتهي، أو كأنك أنت مجتلى هذا الفيش لعيني؛ وكأنك وسيلة في اتصال روحي بروح الجمال الأزلي.

وماذا أقول في هذا الشكل المنسجم المتجاوب من كل نواحيه، إلا أنه القوة الرهيبة ظاهرة في ملمسها الناعم والضعف المؤنث الذابل مسلحا بأسلحة الشهوات والفتنة، والسلطة القادرة اتخذت لها شكل الجمال فيك لتأمر وتنهى فينا.

إنه لجمال أكبر من الجمال، إذ كانت فيه القوة والفتنة والحب جميعا، والجمال وحده من شأنه أن يُعجب، ولكنه فيه يُصبى ويُدله، وبذلك يُعجب ويفتن، وبذلك يتسلط مسوغا الحق، وبذلك لا تكون له إلا الطاعة !

لا أرى غير هذا الشكل يأخذ بقلبي، ولكن أين أجد الكلام يستوعب كل ما في قلبي لأعطي كل معانيك الصوت واللغة؟
وكيف لي أن أزعم أني وصفت التي تمتاز على الشمس والقمر بأن فيهما النور وحده وفي وجهها النور الحي؟

*عن أوراق الورد لمصطفى صادق الرافعي 



الكاتب:  منال كمال المدوّنة: تلميذة الرافعي

 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة