لمياء..
فارق هائل بين البركان الذي يشتعل بداخلي وبين موات مكتبي نصف المظلم الصامت إلا من صوت عقرب الثواني في ساعة الحائط المعلقة أمامي، تدور معلنة انتهاء ثانية تلو أخرى، تتحالف مع الخطوط الرفيعة التي تغزو وجهي وتخفيها جهود طبيب التجميل، والكيلوجرامات الزائدة التي تتسلل إلى جسدي وتتطلب مجهودًا إضافيًا في الجيم لإزالتها، لتذكيري بما أريد أن أنساه، بأيام عمري التي تنفرط مني كعقد ذابل من الياسمين، أيام كئيبة مملة تدور كلها حول العمل، لأعود في المساء منهكة إلي أمي في بيتنا الفاخر الكبير، إلى غرفة نومى المفردة وفراشي البارد، وضع تصورت أني اعتدته حتى حضرت أنت، فثارت العواصف بداخلى وتغير كل شيء، من كان يصدق أنك أنت يا صغير قادر على كل ذلك، صغير؟! نعم، فأنت صغيري أنا، أكبرك عمرًا فهل يمثل هذا شيئًا بالنسبة إليك؟ أظن ذلك، وإلا فلم سألتني عن عام تخرجي من الجامعة والاهتمام يغلف صوتك؟ سؤال فاجأني وإن لم تعجزني الإجابة، وهل تعجز مثلي عن أية إجابة؟ فأعوام التخرج يسهل التلاعب بها بنفس سهولة ذكر تاريخ حصولي على الماجستير بدلًا من عام التخرج، رد بسيط اختصر من عمرى ثلاثة أعوام دفعة واحدة وأعطاك إيحاء أني أكبرك بعام واحد، وإن كنت أبدو في العشرين، كذبة بيضاء ناصعة -فأنت لم تسأل تحديدًا عن البكالوريوس- ولكنها فتحت لي الطريق إلى شيء أحببته وإن لم أدرك ما هو تماما، إثارة إعجابك ربما؟ لا، فهذا قد ثار منذ بداية لقائنا، ربما فتحت لي الطريق إلى ما هو أكثر؟ فهذه مشكلتي دائما مع الرجال، يعجبون بي لأسباب مختلفة، منهم من يعجبه الجمال ومنهم من تأسره القوة والسيطرة، ولكن الزواج شيء مختلف، لم يملك أحد منهم المطلوب للزواج بي فخشي معظمهم الاقتراب، تماما كما تعجب بثوب رائع غالي الثمن في واجهة محل، ولكنك لا تشتريه لأن رصيدك المالي قد نفد، كل من قابلت من الرجال كان رصيده من الرجولة وقوة الشخصية قليل ومتدنٍ بحيث لا يتحمل التعامل مع امرأة مثلي، حتى وإن طار عقله لفرط جمالها وأنوثتها، بل حتى ولو أرسلت له بعينيها وتصرفاتها الرسالة تلو الأخرى بأنها ستقبل به، وستتخلى عن بعض قوتها لتضعه في موضع القائد، فالمشكلة لم تكن بى أنا، بل كانت بهم هم، في إحساسهم الكاذب والمبالغ فيه بالضعف لمجرد أني قوية، شيء غريب في العقلية الذكورية يجعلني لا أفهمها، فأية علاقة تستمد قوتها من قوة طرفيها، فلماذا لا يتزوج أبناء جنسك من النساء القويات، أليست قوتهن قوة للعلاقة نفسها؟ لماذا يجب أن يكون هناك طرف مسيطر وطرف خاضع، ألا يمكن أن يتكامل الطرفان معًا بدلًا من الصراع على موازين القوى، أسئلة دارت بداخلى طويلا وأنا أراقب رفيقاتي كلهن يتزوجن واحدة تلو الأخرى، القبيحات والجميلات، الفقيرات والغنيات، اختلفن في كل شيء واتفقن على مبدأ واحد، الشخصية الخاضعة التي حصلت لكل منهن على زوج، ولم يبقَ إلا لمياء، أجملهن وأكثرهن علما وثراء، صاحبة المنصب الكبير في الشركة الأجنبية الشهيرة، التي يدور في فلكها الرجال ويحضرون إلى مكتبها يبتسمون ويتزلفون لأسباب مختلفة تتعلق بالعمل وبرغبتهم في الجلوس والكلام مع امراة جميلة، منهم من يرسل نظرات الإعجاب والتلميحات حتى أصده فيكف، منهم المتزوج الذي يرغب في زوجة أخرى ويظن أن زواجا "لبعض الوقت" من امرأة قوية سيكون أسهل من الزواج المعتاد، فسيستفيد بمالها ونفوذها ولن يقضي معها كل الوقت فتسيطر عليه، ومنهم من لا يرغب في أكثر من مجرد الكلام، وهكذا لم تصل علاقتي بأي رجل إلى أكثر من مرحلة الخطبة، التي كانت دائما ما تفسخ بعد أن يضعف المسكين وترتعش شخصيته ويدرك أني أرغب في علاقة تكامل لا خضوع، فشل كل منهم في تخطي خارجي إلى الأنثى الحقيقية بداخلي، هل كان الإدراك صعبا لهذه الدرجة أن مثلي قد يملكها رجل بحبه وحنانه ولا يستطيع أن يسيطر عليها بأوامره وصوته العالي؟
ولكنك كنت مختلفا منذ البداية، تلك اللحظة التي لن تذكرها أنت وإن حفرت في داخلي للأبد، يوم دخلت لتقدم أوراق تعيينك في قسم الموارد البشرية، لم تلاحظني وأنا أجلس لفنجان من القهوة مع أحد صديقاتي هناك، ولكنك جذبت اهتمامى للوهلة الأولى، وجدتك وسيما وجذابا لدرجة عصية على الفهم والتصديق معا، فلم تكن أصلا من النوع الذي يعجبني من الرجال، شكلا على الأقل، قضيت وقتا أراقب قميصك الأزرق بلون السماء ويدك ذات الأصابع الطويلة تعبث بجيبه كل حين، حركة تشي باضطرابك ما زلت تفعلها وتسكرني، كلما رفعت عيني عن الأوراق ونحن نعمل لأضبطك متلبسا بتأملي فأحدجك بنظرة طويلة تخفض عينيك بعدها وتضطرب أنفاسك، أعجبني كل شيء فيك حتى طريقة نطقك لاسمى مجردا من الألقاب: لمياء، تضغم اللام مع الميم وتمد الألف بطريقة عجيبة لا يلحظها غيري، رفعت أنت الألقاب منذ أول يوم اخترتك فيه لمشروعي فأعجبني ما فعلت وأثار استغراب الآخرين رغم أن شركتي الأجنبية تعمل على الطريقة الأمريكية ولا تستعمل فيها الألقاب للنداء، و لكنك كنت جديدا ولم يتوقع أحد منك أن تفعل ذلك منذ أول يوم، أسد قوي أنت يا صغيري، لكنك مازلت صغيري، تصارعني بالنظرات ولكنك تخضع في النهاية فتطرق إلى الأرض، ولا تفوتنى تلك النبضات القوية التي تعبر العرق الظاهر في صدغك لتدلني على اضطرابك، ولا تفوتنى رعشة أصابعك فأود لو احتضنتها بأصابعي حتى لا أفلتها أبدا.
اقتنعت أنك تحمل في داخلك شعورا ما نحوي، قناعة لم يغيرها حقيقة خطبتك أنت ونسمة، ولم يهزها منظر خاتم الخطبة الفضي العريض الذي جعلني أتجنب النظر إلى يدك اليمنى تماما. لم يكن لي سبيل إليك إذن أو هكذا ظننت، وإن لم أستطع إيقاف دقة قلبي العالية عندما تدخل علي كل صباح بإحصائيات مشروعنا المشترك وتجلس للكلام معي فأجاهد لقيادة الحوار، شيء أفلح فيه دائما وإن كان داخلي مهتزا فقد تعلمت أن أسيطر على مظهري منذ زمن طويل، دائما ما يتخلل كلامنا الكثير من النظرات والإيماءات فكأن لنا لغة خاصة، تختلف معي كثيرا وتجادلنى وكثيرا ما تقنعني -وإن أنكرت أحيانا- لأذكرك بمن له السيادة في حوارنا.
لا يطربنى شيءئ قدر مشاهدتك تقدم عرضا فى أحد الاجتماعات، لامني الزملاء لأني كثيرا ما أتركك تفتتح اجتماعات المشروع، أدعي أني سأنهي شيئا بدأته وسألحق بك لكي أكمل، ثم ألحق بك وأتأملك لفترة وأنت تتكلم وكأنك تكلمني أنا وحدي، أستمتع بذلك التيار الذي يسري بين عيوننا كلما نظرت إلي، يقولون لي: لماذا تتركين مساعدك يفتتح الاجتماعات فأقول: مصطفى ليس مساعدا لى، إنه مدير المشروع المساعد وسيكون مديرا لمشروع خاص به قريبا جدا. فهكذا رسمت خطتي من أجلك حتى وأنا أعلم أنك في طريقك للزواج من نسمة، هذه الطفلة البلهاء التي لا تعرف كيف تعامل رجلا مثلك، أحببت لك الخير وأنا أعرف أنك تحمل في داخلك شعورا ما نحوي حتى لو لم تكن لي، حتى انقلبت موازين اللعبة عندما اختارت نسمة أن تنسحب لسبب لا أعلمه، ولكن خلافاتكما المستمرة معروفة للجميع، انسحبت فرفعت عني عبء ضميري الذي يؤنبني باستمرار لشعوري الغامض نحوك وأنت مرتبط بغيري، انسحبت فأخلت لي الطريق لمحاولة معرفة ما تكنه لي واستكشاف ما قد يجد في علاقتنا في الفترة القادمة، لم أكرهها أبدا عندما كنتما معا ولكني أحببتها عندما انسحبت حبا لا مزيد عليه، فهى ليست قوية بما يكفى من أجلك، وأنا أستطيع أن أمنحك من الحب ما قد يدير رأسك ويسقط شعرك القصير البني هذا الذي أعشقه، وأستطيع أن أمنحك من فرص الحياة ما تستحقه ولا يحصل عليه غيرك بسهولة، ولكن هل ترضى أنت بي؟ لم يكف خطيبي الأخير عن التعبير عن قلقه ورغبته في إتمام الزواج بسرعة لأننا نصارع الزمن، فقد كنت في الثالثة والثلاثين وعمري الإنجابي أو تاريخ صلاحيتي كما يحدده المجتمع لم يبق منه إلا سبع سنوات على أقصى تقدير، وهو يريد إنجاب الكثير من الأطفال، كان يقول ذلك و كرشه الكبير يترجرج أمامه، فأنظر إلى وجهه الذي لا علاقة له بالوسامة وأهم بالقول: هلا ذهبت ونظرت إلى أقرب مرآة، و لكني أصمت، كان يقول ما يقول وقد تجاوزالخامسة والأربعين، فهل تقبل أنت يا ابن الثلاثين ذلك؟ خاصة وإن قارنتنى بنسمة التي تصغرني بعشرة أعوام؟ ولكنك لست رجلا عاديا، أنت أسد قوي أطلقت له العنان في انتظار أن أسمع زئيره في عريننا المشترك، وقتها لن أرد عليه بزئير مماثل رغم أنى أستطيع فعل ذلك، فهناك طرق أخرى أكثر راحة وفعالية للتعامل مع أمثالك.
مضت أيام بعد انسحاب نسمة سمحت فيها لنفسى بتجاوز الحاجز الذى وضعته بيننا، مررت على مكتبك أكثر من مرة لمجرد قضاء الوقت، فرددت أنت زياراتى بما يليق بها وأصبحنا نقضى وقتا أطول معا، أحاول استكشاف ما يدور بداخلك، مهمة صعبة مع رجل ذكى مثلك، لكنه رجل فى النهاية ولا قبل له بدهاء النساء، حتى خدمتني الظروف فجأة على غير توقع، تعثرت وأنا في طريقي للخروج من مكتبك، فوجدت نفسى على مبعدة سنتيمترات منك وقد اشتبكت نظراتنا، كل شيء فيك قال لي ما رغبت في معرفته، وأرغب الآن في معرفة إن كنت أنت قد ادركته، أنفاسك المتسارعة وصدرك القوي وهو يعلو ويهبط بسرعة، انطباق جفنيك وانفتاحهما السريع، رعشة أصابعك وهي تعبث بجيب قميصك، تهدج صوتك وأنت تسألنى إن كنت أحتاج إلى مساعدة، بينما عيناك تقولان لي: تعالي إلى صدري، ثوان قليلة منحتني إجابتي التي احتجتها وجعلتنى أدرك ما سوف أعمل من أجله في الأيام القادمة، إدراكا لم يغير منه مشاهدتك تدخل إلى المصعد الذي توقف في الطابق تحتنا مباشرة، أنت غالبا ذاهب إلى مكتب نسمة ولكن لا يهم، قلت لنفسي وأنا آخذ نفسا عميقا ما زال معبأ برائحة عطرك الرجالي القوي: لا يهم يا مصطفى، فأنت لي.
فارق هائل بين البركان الذي يشتعل بداخلي وبين موات مكتبي نصف المظلم الصامت إلا من صوت عقرب الثواني في ساعة الحائط المعلقة أمامي، تدور معلنة انتهاء ثانية تلو أخرى، تتحالف مع الخطوط الرفيعة التي تغزو وجهي وتخفيها جهود طبيب التجميل، والكيلوجرامات الزائدة التي تتسلل إلى جسدي وتتطلب مجهودًا إضافيًا في الجيم لإزالتها، لتذكيري بما أريد أن أنساه، بأيام عمري التي تنفرط مني كعقد ذابل من الياسمين، أيام كئيبة مملة تدور كلها حول العمل، لأعود في المساء منهكة إلي أمي في بيتنا الفاخر الكبير، إلى غرفة نومى المفردة وفراشي البارد، وضع تصورت أني اعتدته حتى حضرت أنت، فثارت العواصف بداخلى وتغير كل شيء، من كان يصدق أنك أنت يا صغير قادر على كل ذلك، صغير؟! نعم، فأنت صغيري أنا، أكبرك عمرًا فهل يمثل هذا شيئًا بالنسبة إليك؟ أظن ذلك، وإلا فلم سألتني عن عام تخرجي من الجامعة والاهتمام يغلف صوتك؟ سؤال فاجأني وإن لم تعجزني الإجابة، وهل تعجز مثلي عن أية إجابة؟ فأعوام التخرج يسهل التلاعب بها بنفس سهولة ذكر تاريخ حصولي على الماجستير بدلًا من عام التخرج، رد بسيط اختصر من عمرى ثلاثة أعوام دفعة واحدة وأعطاك إيحاء أني أكبرك بعام واحد، وإن كنت أبدو في العشرين، كذبة بيضاء ناصعة -فأنت لم تسأل تحديدًا عن البكالوريوس- ولكنها فتحت لي الطريق إلى شيء أحببته وإن لم أدرك ما هو تماما، إثارة إعجابك ربما؟ لا، فهذا قد ثار منذ بداية لقائنا، ربما فتحت لي الطريق إلى ما هو أكثر؟ فهذه مشكلتي دائما مع الرجال، يعجبون بي لأسباب مختلفة، منهم من يعجبه الجمال ومنهم من تأسره القوة والسيطرة، ولكن الزواج شيء مختلف، لم يملك أحد منهم المطلوب للزواج بي فخشي معظمهم الاقتراب، تماما كما تعجب بثوب رائع غالي الثمن في واجهة محل، ولكنك لا تشتريه لأن رصيدك المالي قد نفد، كل من قابلت من الرجال كان رصيده من الرجولة وقوة الشخصية قليل ومتدنٍ بحيث لا يتحمل التعامل مع امرأة مثلي، حتى وإن طار عقله لفرط جمالها وأنوثتها، بل حتى ولو أرسلت له بعينيها وتصرفاتها الرسالة تلو الأخرى بأنها ستقبل به، وستتخلى عن بعض قوتها لتضعه في موضع القائد، فالمشكلة لم تكن بى أنا، بل كانت بهم هم، في إحساسهم الكاذب والمبالغ فيه بالضعف لمجرد أني قوية، شيء غريب في العقلية الذكورية يجعلني لا أفهمها، فأية علاقة تستمد قوتها من قوة طرفيها، فلماذا لا يتزوج أبناء جنسك من النساء القويات، أليست قوتهن قوة للعلاقة نفسها؟ لماذا يجب أن يكون هناك طرف مسيطر وطرف خاضع، ألا يمكن أن يتكامل الطرفان معًا بدلًا من الصراع على موازين القوى، أسئلة دارت بداخلى طويلا وأنا أراقب رفيقاتي كلهن يتزوجن واحدة تلو الأخرى، القبيحات والجميلات، الفقيرات والغنيات، اختلفن في كل شيء واتفقن على مبدأ واحد، الشخصية الخاضعة التي حصلت لكل منهن على زوج، ولم يبقَ إلا لمياء، أجملهن وأكثرهن علما وثراء، صاحبة المنصب الكبير في الشركة الأجنبية الشهيرة، التي يدور في فلكها الرجال ويحضرون إلى مكتبها يبتسمون ويتزلفون لأسباب مختلفة تتعلق بالعمل وبرغبتهم في الجلوس والكلام مع امراة جميلة، منهم من يرسل نظرات الإعجاب والتلميحات حتى أصده فيكف، منهم المتزوج الذي يرغب في زوجة أخرى ويظن أن زواجا "لبعض الوقت" من امرأة قوية سيكون أسهل من الزواج المعتاد، فسيستفيد بمالها ونفوذها ولن يقضي معها كل الوقت فتسيطر عليه، ومنهم من لا يرغب في أكثر من مجرد الكلام، وهكذا لم تصل علاقتي بأي رجل إلى أكثر من مرحلة الخطبة، التي كانت دائما ما تفسخ بعد أن يضعف المسكين وترتعش شخصيته ويدرك أني أرغب في علاقة تكامل لا خضوع، فشل كل منهم في تخطي خارجي إلى الأنثى الحقيقية بداخلي، هل كان الإدراك صعبا لهذه الدرجة أن مثلي قد يملكها رجل بحبه وحنانه ولا يستطيع أن يسيطر عليها بأوامره وصوته العالي؟
ولكنك كنت مختلفا منذ البداية، تلك اللحظة التي لن تذكرها أنت وإن حفرت في داخلي للأبد، يوم دخلت لتقدم أوراق تعيينك في قسم الموارد البشرية، لم تلاحظني وأنا أجلس لفنجان من القهوة مع أحد صديقاتي هناك، ولكنك جذبت اهتمامى للوهلة الأولى، وجدتك وسيما وجذابا لدرجة عصية على الفهم والتصديق معا، فلم تكن أصلا من النوع الذي يعجبني من الرجال، شكلا على الأقل، قضيت وقتا أراقب قميصك الأزرق بلون السماء ويدك ذات الأصابع الطويلة تعبث بجيبه كل حين، حركة تشي باضطرابك ما زلت تفعلها وتسكرني، كلما رفعت عيني عن الأوراق ونحن نعمل لأضبطك متلبسا بتأملي فأحدجك بنظرة طويلة تخفض عينيك بعدها وتضطرب أنفاسك، أعجبني كل شيء فيك حتى طريقة نطقك لاسمى مجردا من الألقاب: لمياء، تضغم اللام مع الميم وتمد الألف بطريقة عجيبة لا يلحظها غيري، رفعت أنت الألقاب منذ أول يوم اخترتك فيه لمشروعي فأعجبني ما فعلت وأثار استغراب الآخرين رغم أن شركتي الأجنبية تعمل على الطريقة الأمريكية ولا تستعمل فيها الألقاب للنداء، و لكنك كنت جديدا ولم يتوقع أحد منك أن تفعل ذلك منذ أول يوم، أسد قوي أنت يا صغيري، لكنك مازلت صغيري، تصارعني بالنظرات ولكنك تخضع في النهاية فتطرق إلى الأرض، ولا تفوتنى تلك النبضات القوية التي تعبر العرق الظاهر في صدغك لتدلني على اضطرابك، ولا تفوتنى رعشة أصابعك فأود لو احتضنتها بأصابعي حتى لا أفلتها أبدا.
اقتنعت أنك تحمل في داخلك شعورا ما نحوي، قناعة لم يغيرها حقيقة خطبتك أنت ونسمة، ولم يهزها منظر خاتم الخطبة الفضي العريض الذي جعلني أتجنب النظر إلى يدك اليمنى تماما. لم يكن لي سبيل إليك إذن أو هكذا ظننت، وإن لم أستطع إيقاف دقة قلبي العالية عندما تدخل علي كل صباح بإحصائيات مشروعنا المشترك وتجلس للكلام معي فأجاهد لقيادة الحوار، شيء أفلح فيه دائما وإن كان داخلي مهتزا فقد تعلمت أن أسيطر على مظهري منذ زمن طويل، دائما ما يتخلل كلامنا الكثير من النظرات والإيماءات فكأن لنا لغة خاصة، تختلف معي كثيرا وتجادلنى وكثيرا ما تقنعني -وإن أنكرت أحيانا- لأذكرك بمن له السيادة في حوارنا.
لا يطربنى شيءئ قدر مشاهدتك تقدم عرضا فى أحد الاجتماعات، لامني الزملاء لأني كثيرا ما أتركك تفتتح اجتماعات المشروع، أدعي أني سأنهي شيئا بدأته وسألحق بك لكي أكمل، ثم ألحق بك وأتأملك لفترة وأنت تتكلم وكأنك تكلمني أنا وحدي، أستمتع بذلك التيار الذي يسري بين عيوننا كلما نظرت إلي، يقولون لي: لماذا تتركين مساعدك يفتتح الاجتماعات فأقول: مصطفى ليس مساعدا لى، إنه مدير المشروع المساعد وسيكون مديرا لمشروع خاص به قريبا جدا. فهكذا رسمت خطتي من أجلك حتى وأنا أعلم أنك في طريقك للزواج من نسمة، هذه الطفلة البلهاء التي لا تعرف كيف تعامل رجلا مثلك، أحببت لك الخير وأنا أعرف أنك تحمل في داخلك شعورا ما نحوي حتى لو لم تكن لي، حتى انقلبت موازين اللعبة عندما اختارت نسمة أن تنسحب لسبب لا أعلمه، ولكن خلافاتكما المستمرة معروفة للجميع، انسحبت فرفعت عني عبء ضميري الذي يؤنبني باستمرار لشعوري الغامض نحوك وأنت مرتبط بغيري، انسحبت فأخلت لي الطريق لمحاولة معرفة ما تكنه لي واستكشاف ما قد يجد في علاقتنا في الفترة القادمة، لم أكرهها أبدا عندما كنتما معا ولكني أحببتها عندما انسحبت حبا لا مزيد عليه، فهى ليست قوية بما يكفى من أجلك، وأنا أستطيع أن أمنحك من الحب ما قد يدير رأسك ويسقط شعرك القصير البني هذا الذي أعشقه، وأستطيع أن أمنحك من فرص الحياة ما تستحقه ولا يحصل عليه غيرك بسهولة، ولكن هل ترضى أنت بي؟ لم يكف خطيبي الأخير عن التعبير عن قلقه ورغبته في إتمام الزواج بسرعة لأننا نصارع الزمن، فقد كنت في الثالثة والثلاثين وعمري الإنجابي أو تاريخ صلاحيتي كما يحدده المجتمع لم يبق منه إلا سبع سنوات على أقصى تقدير، وهو يريد إنجاب الكثير من الأطفال، كان يقول ذلك و كرشه الكبير يترجرج أمامه، فأنظر إلى وجهه الذي لا علاقة له بالوسامة وأهم بالقول: هلا ذهبت ونظرت إلى أقرب مرآة، و لكني أصمت، كان يقول ما يقول وقد تجاوزالخامسة والأربعين، فهل تقبل أنت يا ابن الثلاثين ذلك؟ خاصة وإن قارنتنى بنسمة التي تصغرني بعشرة أعوام؟ ولكنك لست رجلا عاديا، أنت أسد قوي أطلقت له العنان في انتظار أن أسمع زئيره في عريننا المشترك، وقتها لن أرد عليه بزئير مماثل رغم أنى أستطيع فعل ذلك، فهناك طرق أخرى أكثر راحة وفعالية للتعامل مع أمثالك.
مضت أيام بعد انسحاب نسمة سمحت فيها لنفسى بتجاوز الحاجز الذى وضعته بيننا، مررت على مكتبك أكثر من مرة لمجرد قضاء الوقت، فرددت أنت زياراتى بما يليق بها وأصبحنا نقضى وقتا أطول معا، أحاول استكشاف ما يدور بداخلك، مهمة صعبة مع رجل ذكى مثلك، لكنه رجل فى النهاية ولا قبل له بدهاء النساء، حتى خدمتني الظروف فجأة على غير توقع، تعثرت وأنا في طريقي للخروج من مكتبك، فوجدت نفسى على مبعدة سنتيمترات منك وقد اشتبكت نظراتنا، كل شيء فيك قال لي ما رغبت في معرفته، وأرغب الآن في معرفة إن كنت أنت قد ادركته، أنفاسك المتسارعة وصدرك القوي وهو يعلو ويهبط بسرعة، انطباق جفنيك وانفتاحهما السريع، رعشة أصابعك وهي تعبث بجيب قميصك، تهدج صوتك وأنت تسألنى إن كنت أحتاج إلى مساعدة، بينما عيناك تقولان لي: تعالي إلى صدري، ثوان قليلة منحتني إجابتي التي احتجتها وجعلتنى أدرك ما سوف أعمل من أجله في الأيام القادمة، إدراكا لم يغير منه مشاهدتك تدخل إلى المصعد الذي توقف في الطابق تحتنا مباشرة، أنت غالبا ذاهب إلى مكتب نسمة ولكن لا يهم، قلت لنفسي وأنا آخذ نفسا عميقا ما زال معبأ برائحة عطرك الرجالي القوي: لا يهم يا مصطفى، فأنت لي.
الكاتب: | شهرزاد المصرية | المدوّنة: | امراة قليلة الكلام |