زلطة(1)
اسمي زلطة
اسمي زلطة
نعم.. زلطة دبش أبو حجر، هو اسمي بالكامل.
أسكن حي الدقي بجوار قسم الشرطة، ذلك المكان الذي احترت في أمره، فلا أعلم أهو في خدمة الشعب أم أن الشعب شريك له في خدمة أغراض أخرى، ولما أسأل والدتي تقول: "بس يا واد مش عايزين مشاكل احنا مش أدّهم".
أحترم عدم رغبة أمي في الحديث، لماذا؟ لأني وحيدها، ربتني بعد أن سافر أبي إلى فلسطين وأنا عمري تسع سنوات.. سافر للجهاد وليس للعمل! تحكي لي أمي عن بطولاته في انتفاضة عام 2000 وإن كنت أشعر أنها كانت تنسج قصصا من خيالها لأن أبي لم يعد، علمنا أن دبابة دهسته وصار بسوى الأرض هناك، يغبطني أقراني أن والدي صار جزءا من الأرض المباركة.
وجدي لأمي كان هناك في الانتفاضة الأولى عام 87 ولكنه عاد منذ سنوات عالقا بعجلات حقيبة فلسطيني مصاب جاء القاهرة للعلاج.
كنت دوما أفخر بأسرتي وإن كنت مختلفا عنهم،، أركن للراحة دائما، ولا أحتمل العنف، فأنا بالفعل "زلطة" رقيقة ذات ملمس ناعم، ولوني أرجواني لامع.
كلما افتقدتني أمي وجدتني بجوار أطفال يلعبون وأنا وسطهم في لعبة "أولى" أو "سيجا"، أجد متعة وأنا ألعب معهم، فتقول متوعدة: "لو يشوفك جدك"!
يغضبني هذا الأمر كثيرا، ماذا ينتظرون مني؟ هل لأني ابن البطل فمن المفترض أن أصير أنا الآخر بطلاً؟ وإن لم أكن، كيف أجعلهم يفخرون بي؟ ألا يصبرون حتى يشتد عودي فأنطلق في ربوع الأرض ويكون لي مكان بين بني جلدتي؟
في مرة أزعجني كلام أمي فذهبت لجدي من باب أن الدفاع خير وسيلة للهجوم وصرخت: إيه الحكاية؟ في الرايحة والجاية مش عاجبكم حالي، شوفلك شغلة ولا مشغلة! أنا لسه صغير ومش حمل بهدلة!
يمطّ جدي شفتيه ويقول: والله كان معايا في الحرب ناس في سنك وأصغر، أنا مش عارف انت طالع لمين!
أتحير من أمره وأقول: يا جدو، يعني هو الفخر ما يكونش غير كده؟ يعني ما يينفعش أكون قطعة من صندوق مطعّم بحجر كريم، أو جزء من عقد حريمي ف خان الخليلي، أو حتى.......
قاطعني هذه المرة صارخا: شوف ازاي! حتى أحلامك خرعة زيك! ما هو العيب في أمك اللي مدلعاك، قالت بكرة يكبر وتشوفوه ف مبنى عليه القيمة ولا برج واقف صلب ينفع بلده، لكن الظاهر مفيش فايدة فيك، عاجبك لعب البنات، يا متشاط برجليهم، يا متشال متحط ف سيجا، يخي جك خيبة.
تحول لوني للأحمر الناري وقبل أن أنطق بكلمة تدحرج جدي من أمامي فاستدرت وأقسمت ألا أعود للمنزل ثانية حتى أثبت لهم أني أصلب من ذلك.
تحركت من مكاني قاصدا وسط البلد علني أقفز في عربة تحملني خارج القاهرة فأشق طريقي لإحدى المدن الجديدة فأبدأ حياة جديدة.
زلطة(2)
سرت مسافة لم أشعر بطولها أو قصرها، لا أفكر بأمر سوى غضبي، عبرت الجسر وأكملت حتى وصلت إلى ميدان التحرير، اصطدمت بعدد هائل من البشر، وما عهدت الميدان مزدحما هكذا ولا حتى في الأعياد! لم أهتم، وأكملت سيري، ولكن..... الجو غائم؟ لا إنه دخان! وأمطار أيضا؟ هذا ما كان ينقصني! ليست أمطارا! إنها خراطيم؟ أيحولون الميدان أراضٍ زراعية؟ كلا، هذا الهرج مريب، استندت على رصيف وسألت طـوبـة منه: زحمة ولا بتهيألي؟
أحسست في صوتها رجفة وهي تقول: زحمة بس؟ طب كويس إانك شايف، ده الدخان مالي المكان.
نظرت حولي فإذا الأقدام تجري متخبطة، وبعض البشر يسقط، صمت لبرهة فسمعت هتافات لم أعتدها، رجال الشرطة؟ أجل أنا أعرفهم، أسكن جوارهم، مالهم بعصيهم راكضون؟ هل أبلغتهم أمي عن غيابي؟! ارتكنت على جنب أشاهد في ذهول حتى أطبق المساء.
وفجأة، وجدت البشر من حولي يفترشون الأرض، فأسرعت لـحـجـر اتخذه شاب وسادة ووضع رأسه عليه لينام، فاقتربت منه وسألته: لأ اشرحلي، أنا مش فاهم؟!
فإذا به ينظر لي نظرة فهمت منها ألا أرفع صوتي فأوقظ النائم وقال: الواد يا حبة عيني م الصبح داير في الشوارع والشرطة نازلة فيهم ضرب، قاموا حلفوا ما يسيبوا الميدان ويباتوا فيه، صُعُب عليا لما حط راسه ونام، قلت الصباح رباح ونشوف ناويين على إيه؟
بدا لي الكلام غريبا! شرطة وضرب وبيات في الشوارع؟ لكن حديث الحجر نبهني أن الوقت قد تأخر والليل ساد المكان، فسكنت بجواره ونمت.
لا أذكر كم يوما بقيت في المكان لا أبرحه، ولكن الذي أتذكره جيدا أن أولئك البشر الذين سكنوا الميدان لم يبرحوه، أناس غاية في اللطف والمرح! ما عهدت البشر هكذا أبدا! تمنيت للحظة لو كنت مثلهم، أو حتى حيوان أحدهم الأليف، كتلك القطة التي كانت في أحضان فتى ليلا ونهارا تحمل لافتة لا أدري ما كتب عليها، غير أني وجدت أحد الصحفيين يصورهما، فتوقعت أن يكون أمرا حسنا.
كانت أصواتهم توقظني كل صباح، تمريناتهم الرياضية ثم الهتافات، حتى صوت رشفات أكواب الشاي كانت تطربني، لهم روح ساحرة تسري في المكان أعتقد أنها أصابتني.
في يوم رأيت جسما خشبيا مرتفعا نزل الأرض وسماعات كأنهم يعدون لحفل، علمت بعدها أن اسمها مـنـصـّـة، كنت أسمع منها أغان ِ ترتفع لها الأعلام والصيحات، تعرّفت على طـوبـة طيبة مربوطة في أحد قوائم المنصّة تذكرني بأمي فلزمتها. أتجول في الميدان كل يوم ثم أعود لها، وسط الزحام أعرف طريقي، فأجدها تنتظر عودتي بلهفة تستمع مني أخبار الميدان وساكنيه. كانت تشجعني كلما رأتني أحاول مساعدتهم، تضحك لما أقفز أمامها سعيدا وأنا أحكي لها ما أفعله كل يوم معهم.
مرة وضعوني على ورق خشية أن يطير، كانت أوراقا مرسوم عليها أشكال رائعة موضوعة في مكان علمت بعدها أن اسمه مـعـرض الـثـورة! ومرة وضعوني على لاصقات طبية في المستشفى الميداني. كان صغر حجمي لا يلزمني بمهام كبيرة، و لكن ما كنت أقوم به أستطيع القول بأنه كان هاما ولو بسيطا. في مكان كالميدان، كل أمر تقوم به هام وذو فائدة.
أذكرت لكم المستشفى الميداني؟ سأحكي لكم حكايته.
زلطة(3)
تعودت في الميدان رؤية سيارات تحمل أطعمة وأغطية، ثم صارت السيارات تحمل أدوية بعد ذلك الـيـوم الـدامـي!! يوم تأسس الـمـسـتـشـفـى الـمـيـدانـي!
رأيت أحجارا غريبة عن الميدان لم أرها من قبل، أحجارا تشبه جدي في حدّته، وكلنها تفوقه حجما، ثم شاهدت أجساما طائرة لما تهبط على الأرض تحدث بها شقوق! علمت بعدها أن اسمها الـرخـام.
تدحرجت مسرعا لأمي الروحية في الميدان أسألها ما الأمر، فقالت أن رجالاً أتوا بخيول وجمال واعتدوا على ساكني الميدان!
وقبل أن تكمل حديثها انطلقت من أمامها كرصاصة وأنا أردد هامسا: جاء دوري، اليوم أثبت لأمي وجدي أن لي فائدة وسيفخر أبي إن علم بما سأصنع.
قلت الآن سيرد ساكنو الميدان هجوم المعتدين، فلابد أن أكون بجوارهم فيقذفوني على من اعتدى عليهم فأصيبهم وأوجعهم، غير أني أسمعهم يقفون هاتفين: سـلـمـيـة سـلـمـيـة!!
وفي غمرة اندهاشي اهتزت الأرض من تحتي فإذا جمال تركض في الميدان، ولون الأرض اصطبغ بدم! تلك القطع الرخامية والأحجار الحادة كأنها تعرف مسارها فلا يخطئ قاذفها، وإنما من يده إلى رأس ساكن التحرير مباشرة! كيف أحميهم؟ ماذا أصنع لهم؟ عدت لأمي في الميدان أسألها، فقالت: فيه شباب بيجمعوا حجارة أهُـم روح جنبهم يمكن يعوزوك.
أسرعت في الدحرجة فإذا بقطعة رخـام تهبط بجواري بقوة، نظرت لها بغضب وصرخت: ليه؟ كانوا عملولك إيه؟
رد الرخامي بصوت أجده رخامي مثله: بس يا صغيّر انت إش فهّمك!
قفزت أمامه وأجبته: اللي قاعدين هنا دول... دول... آاااا عمرهم ما عملوا حاجة وحشة! دول بيحبوا بعض! ونضاف ومنظمين ومش.... آاااا..... قاطعني الرخامي موجها سنّه الحاد نحوي: العيال دي هتودي البلد في داهية، الحال واقف وبيتطاولوا ع الكبار.. تفهم انت في الكلام ده؟
فأجبته بسرعة وأنا أتهتِه: لا انا ما اصدقش، انت بس اللي مش عارفهم، دول ما بيئذوش حد، ما كسروش لمبة حتى ولا بيضربوا حد!
رد الرخامي مستهزئا: يختي بطة! روحي يا حلوة عند ماما عشان اليوم لسه ماخلصش، وفيه غيري جاي.
وقفت مذهولا وخائفا حتى حل المساء، فإذا بسيدة تأخذني وتطرق بي أعمدة النور في الميدان، وتشاركها أخريات، قالت: نرعبهم بتلك الأصوات العالية ونزعجهم ونربك تحركاتهم.
فرِحت بمهمتي أيما فرح وتنبهت لأمر كنت قد نسيته، كيف لم أذهب لأطمئن على أسرتي؟ وصرخت: تعالي يا ماما شوفي زلطة، بص شوف زلطة بيعمل إيه!
فإذا بي أسمع صوتها ترد عليً: بس يا واد أنا ناقصة دوشة ما كفاية اللي بتعمله انت وجدك في إيد الست دي.
تعجبت لما رأيت والـدتـي تحت أقدام السيدة التي تمسك بي، وإذا بجدي في يدها الأخرى، فضرخت ضاحكا: دي حاجة بسيطة يا ماما، أنا طول الوقت معاهم وعملت حاجات عظيمة جدا هبقى أحكيلك عليها،، جدوووووو، إنت كويس؟
صرخ جـدي لأسمعه بوضوح: كويس بس؟ ده انا قربت أطلـّع نار من كتر الخبط يا بني!
ضحك ثلاثتنا وأكملنا الليلة والليلة التي تلتها ونحن في أيدي ساكني الميدان، قال لي جدي أن اسمهم الـثـوّار، وأن قتلاهم شـهـداء، وأن مطلبهم رحـيـل الـظـالـم، وأن الميدان صار مسكنهم، وأن دماءهم طاهرة، وأنهم أبطال بحق، سيفخر بهم ذووهم كما سيفخر بي أبي إن علم أني شاركت معهم في............. في الثـورة، هكذا أسماها لي جدي.
حدثته عن الدبابات لما دخلت الميدان وحاصرته، أخبرته أني اعتقدت حربا قد حدثت وأن مصيري سيكون كمصير أبـي، ولكن الحـجـر الذي تعرفت عليه في بداية الأحداث أعلمني أنه جيش البلاد نزل الشوارع بعد انسحاب رجال الشرطة من أماكنهم.
سألت أمي عن قسم الشـرطـة الذي نسكن بجواره، فأخبرتني أنه صار خاليا، وأن شباب الحي كوّنوا مجموعات يسميها جدي لجانا شعبية لحماية الممتلكات.
تركت جدي وأمي يتحدثان وأنا أنظر إليهما في صمت مبتسما، هل صار لدي أنا أيضا حكايات أحكيها لأبنائي؟ لقد صرت بطلاً من أبطال الثورة وأنا في سني الصغير، صرت صلبا أتحمل وحادا حتى بملمسي الناعم، تغيرت أفكاري وطموحاتي، وأصررت على البقاء مع ساكني الميدان، أقصد مع الثوار حتى نيل المطالب وسأردد معهم كل ليلة: يا رب،، الليلة يا رب.
أسكن حي الدقي بجوار قسم الشرطة، ذلك المكان الذي احترت في أمره، فلا أعلم أهو في خدمة الشعب أم أن الشعب شريك له في خدمة أغراض أخرى، ولما أسأل والدتي تقول: "بس يا واد مش عايزين مشاكل احنا مش أدّهم".
أحترم عدم رغبة أمي في الحديث، لماذا؟ لأني وحيدها، ربتني بعد أن سافر أبي إلى فلسطين وأنا عمري تسع سنوات.. سافر للجهاد وليس للعمل! تحكي لي أمي عن بطولاته في انتفاضة عام 2000 وإن كنت أشعر أنها كانت تنسج قصصا من خيالها لأن أبي لم يعد، علمنا أن دبابة دهسته وصار بسوى الأرض هناك، يغبطني أقراني أن والدي صار جزءا من الأرض المباركة.
وجدي لأمي كان هناك في الانتفاضة الأولى عام 87 ولكنه عاد منذ سنوات عالقا بعجلات حقيبة فلسطيني مصاب جاء القاهرة للعلاج.
كنت دوما أفخر بأسرتي وإن كنت مختلفا عنهم،، أركن للراحة دائما، ولا أحتمل العنف، فأنا بالفعل "زلطة" رقيقة ذات ملمس ناعم، ولوني أرجواني لامع.
كلما افتقدتني أمي وجدتني بجوار أطفال يلعبون وأنا وسطهم في لعبة "أولى" أو "سيجا"، أجد متعة وأنا ألعب معهم، فتقول متوعدة: "لو يشوفك جدك"!
يغضبني هذا الأمر كثيرا، ماذا ينتظرون مني؟ هل لأني ابن البطل فمن المفترض أن أصير أنا الآخر بطلاً؟ وإن لم أكن، كيف أجعلهم يفخرون بي؟ ألا يصبرون حتى يشتد عودي فأنطلق في ربوع الأرض ويكون لي مكان بين بني جلدتي؟
في مرة أزعجني كلام أمي فذهبت لجدي من باب أن الدفاع خير وسيلة للهجوم وصرخت: إيه الحكاية؟ في الرايحة والجاية مش عاجبكم حالي، شوفلك شغلة ولا مشغلة! أنا لسه صغير ومش حمل بهدلة!
يمطّ جدي شفتيه ويقول: والله كان معايا في الحرب ناس في سنك وأصغر، أنا مش عارف انت طالع لمين!
أتحير من أمره وأقول: يا جدو، يعني هو الفخر ما يكونش غير كده؟ يعني ما يينفعش أكون قطعة من صندوق مطعّم بحجر كريم، أو جزء من عقد حريمي ف خان الخليلي، أو حتى.......
قاطعني هذه المرة صارخا: شوف ازاي! حتى أحلامك خرعة زيك! ما هو العيب في أمك اللي مدلعاك، قالت بكرة يكبر وتشوفوه ف مبنى عليه القيمة ولا برج واقف صلب ينفع بلده، لكن الظاهر مفيش فايدة فيك، عاجبك لعب البنات، يا متشاط برجليهم، يا متشال متحط ف سيجا، يخي جك خيبة.
تحول لوني للأحمر الناري وقبل أن أنطق بكلمة تدحرج جدي من أمامي فاستدرت وأقسمت ألا أعود للمنزل ثانية حتى أثبت لهم أني أصلب من ذلك.
تحركت من مكاني قاصدا وسط البلد علني أقفز في عربة تحملني خارج القاهرة فأشق طريقي لإحدى المدن الجديدة فأبدأ حياة جديدة.
زلطة(2)
سرت مسافة لم أشعر بطولها أو قصرها، لا أفكر بأمر سوى غضبي، عبرت الجسر وأكملت حتى وصلت إلى ميدان التحرير، اصطدمت بعدد هائل من البشر، وما عهدت الميدان مزدحما هكذا ولا حتى في الأعياد! لم أهتم، وأكملت سيري، ولكن..... الجو غائم؟ لا إنه دخان! وأمطار أيضا؟ هذا ما كان ينقصني! ليست أمطارا! إنها خراطيم؟ أيحولون الميدان أراضٍ زراعية؟ كلا، هذا الهرج مريب، استندت على رصيف وسألت طـوبـة منه: زحمة ولا بتهيألي؟
أحسست في صوتها رجفة وهي تقول: زحمة بس؟ طب كويس إانك شايف، ده الدخان مالي المكان.
نظرت حولي فإذا الأقدام تجري متخبطة، وبعض البشر يسقط، صمت لبرهة فسمعت هتافات لم أعتدها، رجال الشرطة؟ أجل أنا أعرفهم، أسكن جوارهم، مالهم بعصيهم راكضون؟ هل أبلغتهم أمي عن غيابي؟! ارتكنت على جنب أشاهد في ذهول حتى أطبق المساء.
وفجأة، وجدت البشر من حولي يفترشون الأرض، فأسرعت لـحـجـر اتخذه شاب وسادة ووضع رأسه عليه لينام، فاقتربت منه وسألته: لأ اشرحلي، أنا مش فاهم؟!
فإذا به ينظر لي نظرة فهمت منها ألا أرفع صوتي فأوقظ النائم وقال: الواد يا حبة عيني م الصبح داير في الشوارع والشرطة نازلة فيهم ضرب، قاموا حلفوا ما يسيبوا الميدان ويباتوا فيه، صُعُب عليا لما حط راسه ونام، قلت الصباح رباح ونشوف ناويين على إيه؟
بدا لي الكلام غريبا! شرطة وضرب وبيات في الشوارع؟ لكن حديث الحجر نبهني أن الوقت قد تأخر والليل ساد المكان، فسكنت بجواره ونمت.
لا أذكر كم يوما بقيت في المكان لا أبرحه، ولكن الذي أتذكره جيدا أن أولئك البشر الذين سكنوا الميدان لم يبرحوه، أناس غاية في اللطف والمرح! ما عهدت البشر هكذا أبدا! تمنيت للحظة لو كنت مثلهم، أو حتى حيوان أحدهم الأليف، كتلك القطة التي كانت في أحضان فتى ليلا ونهارا تحمل لافتة لا أدري ما كتب عليها، غير أني وجدت أحد الصحفيين يصورهما، فتوقعت أن يكون أمرا حسنا.
كانت أصواتهم توقظني كل صباح، تمريناتهم الرياضية ثم الهتافات، حتى صوت رشفات أكواب الشاي كانت تطربني، لهم روح ساحرة تسري في المكان أعتقد أنها أصابتني.
في يوم رأيت جسما خشبيا مرتفعا نزل الأرض وسماعات كأنهم يعدون لحفل، علمت بعدها أن اسمها مـنـصـّـة، كنت أسمع منها أغان ِ ترتفع لها الأعلام والصيحات، تعرّفت على طـوبـة طيبة مربوطة في أحد قوائم المنصّة تذكرني بأمي فلزمتها. أتجول في الميدان كل يوم ثم أعود لها، وسط الزحام أعرف طريقي، فأجدها تنتظر عودتي بلهفة تستمع مني أخبار الميدان وساكنيه. كانت تشجعني كلما رأتني أحاول مساعدتهم، تضحك لما أقفز أمامها سعيدا وأنا أحكي لها ما أفعله كل يوم معهم.
مرة وضعوني على ورق خشية أن يطير، كانت أوراقا مرسوم عليها أشكال رائعة موضوعة في مكان علمت بعدها أن اسمه مـعـرض الـثـورة! ومرة وضعوني على لاصقات طبية في المستشفى الميداني. كان صغر حجمي لا يلزمني بمهام كبيرة، و لكن ما كنت أقوم به أستطيع القول بأنه كان هاما ولو بسيطا. في مكان كالميدان، كل أمر تقوم به هام وذو فائدة.
أذكرت لكم المستشفى الميداني؟ سأحكي لكم حكايته.
زلطة(3)
تعودت في الميدان رؤية سيارات تحمل أطعمة وأغطية، ثم صارت السيارات تحمل أدوية بعد ذلك الـيـوم الـدامـي!! يوم تأسس الـمـسـتـشـفـى الـمـيـدانـي!
رأيت أحجارا غريبة عن الميدان لم أرها من قبل، أحجارا تشبه جدي في حدّته، وكلنها تفوقه حجما، ثم شاهدت أجساما طائرة لما تهبط على الأرض تحدث بها شقوق! علمت بعدها أن اسمها الـرخـام.
تدحرجت مسرعا لأمي الروحية في الميدان أسألها ما الأمر، فقالت أن رجالاً أتوا بخيول وجمال واعتدوا على ساكني الميدان!
وقبل أن تكمل حديثها انطلقت من أمامها كرصاصة وأنا أردد هامسا: جاء دوري، اليوم أثبت لأمي وجدي أن لي فائدة وسيفخر أبي إن علم بما سأصنع.
قلت الآن سيرد ساكنو الميدان هجوم المعتدين، فلابد أن أكون بجوارهم فيقذفوني على من اعتدى عليهم فأصيبهم وأوجعهم، غير أني أسمعهم يقفون هاتفين: سـلـمـيـة سـلـمـيـة!!
وفي غمرة اندهاشي اهتزت الأرض من تحتي فإذا جمال تركض في الميدان، ولون الأرض اصطبغ بدم! تلك القطع الرخامية والأحجار الحادة كأنها تعرف مسارها فلا يخطئ قاذفها، وإنما من يده إلى رأس ساكن التحرير مباشرة! كيف أحميهم؟ ماذا أصنع لهم؟ عدت لأمي في الميدان أسألها، فقالت: فيه شباب بيجمعوا حجارة أهُـم روح جنبهم يمكن يعوزوك.
أسرعت في الدحرجة فإذا بقطعة رخـام تهبط بجواري بقوة، نظرت لها بغضب وصرخت: ليه؟ كانوا عملولك إيه؟
رد الرخامي بصوت أجده رخامي مثله: بس يا صغيّر انت إش فهّمك!
قفزت أمامه وأجبته: اللي قاعدين هنا دول... دول... آاااا عمرهم ما عملوا حاجة وحشة! دول بيحبوا بعض! ونضاف ومنظمين ومش.... آاااا..... قاطعني الرخامي موجها سنّه الحاد نحوي: العيال دي هتودي البلد في داهية، الحال واقف وبيتطاولوا ع الكبار.. تفهم انت في الكلام ده؟
فأجبته بسرعة وأنا أتهتِه: لا انا ما اصدقش، انت بس اللي مش عارفهم، دول ما بيئذوش حد، ما كسروش لمبة حتى ولا بيضربوا حد!
رد الرخامي مستهزئا: يختي بطة! روحي يا حلوة عند ماما عشان اليوم لسه ماخلصش، وفيه غيري جاي.
وقفت مذهولا وخائفا حتى حل المساء، فإذا بسيدة تأخذني وتطرق بي أعمدة النور في الميدان، وتشاركها أخريات، قالت: نرعبهم بتلك الأصوات العالية ونزعجهم ونربك تحركاتهم.
فرِحت بمهمتي أيما فرح وتنبهت لأمر كنت قد نسيته، كيف لم أذهب لأطمئن على أسرتي؟ وصرخت: تعالي يا ماما شوفي زلطة، بص شوف زلطة بيعمل إيه!
فإذا بي أسمع صوتها ترد عليً: بس يا واد أنا ناقصة دوشة ما كفاية اللي بتعمله انت وجدك في إيد الست دي.
تعجبت لما رأيت والـدتـي تحت أقدام السيدة التي تمسك بي، وإذا بجدي في يدها الأخرى، فضرخت ضاحكا: دي حاجة بسيطة يا ماما، أنا طول الوقت معاهم وعملت حاجات عظيمة جدا هبقى أحكيلك عليها،، جدوووووو، إنت كويس؟
صرخ جـدي لأسمعه بوضوح: كويس بس؟ ده انا قربت أطلـّع نار من كتر الخبط يا بني!
ضحك ثلاثتنا وأكملنا الليلة والليلة التي تلتها ونحن في أيدي ساكني الميدان، قال لي جدي أن اسمهم الـثـوّار، وأن قتلاهم شـهـداء، وأن مطلبهم رحـيـل الـظـالـم، وأن الميدان صار مسكنهم، وأن دماءهم طاهرة، وأنهم أبطال بحق، سيفخر بهم ذووهم كما سيفخر بي أبي إن علم أني شاركت معهم في............. في الثـورة، هكذا أسماها لي جدي.
حدثته عن الدبابات لما دخلت الميدان وحاصرته، أخبرته أني اعتقدت حربا قد حدثت وأن مصيري سيكون كمصير أبـي، ولكن الحـجـر الذي تعرفت عليه في بداية الأحداث أعلمني أنه جيش البلاد نزل الشوارع بعد انسحاب رجال الشرطة من أماكنهم.
سألت أمي عن قسم الشـرطـة الذي نسكن بجواره، فأخبرتني أنه صار خاليا، وأن شباب الحي كوّنوا مجموعات يسميها جدي لجانا شعبية لحماية الممتلكات.
تركت جدي وأمي يتحدثان وأنا أنظر إليهما في صمت مبتسما، هل صار لدي أنا أيضا حكايات أحكيها لأبنائي؟ لقد صرت بطلاً من أبطال الثورة وأنا في سني الصغير، صرت صلبا أتحمل وحادا حتى بملمسي الناعم، تغيرت أفكاري وطموحاتي، وأصررت على البقاء مع ساكني الميدان، أقصد مع الثوار حتى نيل المطالب وسأردد معهم كل ليلة: يا رب،، الليلة يا رب.
***** *****
نهاية زلـطـة لم تكن كما أرادتها له والدته في مبنى عظيم من مباني القاهرة.. زلـطـة اختار لنفسه نهاية أحلى أسرّها في نفسه ولم يبح بها لأحد.. زلـطـة الآن جزء من أرض الميدان، أنهى حياته كأبيه، انتظر رحيل الجيش من الميدان ووقف أمام الدبابات فصار بسوى الأرض.. جزء من أرض ارتوت بدماء أبطال الثورة!
نهاية زلـطـة لم تكن كما أرادتها له والدته في مبنى عظيم من مباني القاهرة.. زلـطـة اختار لنفسه نهاية أحلى أسرّها في نفسه ولم يبح بها لأحد.. زلـطـة الآن جزء من أرض الميدان، أنهى حياته كأبيه، انتظر رحيل الجيش من الميدان ووقف أمام الدبابات فصار بسوى الأرض.. جزء من أرض ارتوت بدماء أبطال الثورة!
الكاتب: | مها ميهو | المدوّنة: | أحسن تستاهل |