كانت هناك مجموعة من الأفكار والمعتقدات تحكمه، وتسير عليها حياته.
أولها... السير بجانب الحائط أسلم طريق للنجاة.. وآخرها.. من خاف سلم.. فكان لا يفتح فمه مهما ذاق من عذاب أو إهانة أو مذلة.. وبالطبع غرس كل فلسفته في الحياة في أولاده.. فعلمهم ألا يقفوا في مهب الرياح، وأن يغلقوا أبوابهم بإحكام خوفًا من أيّة عاصفة قادمة.. وأن يحنوا رؤوسَهم حتى لا تقطع رقابهم. كان هذا هو منهجه.. فإن أردنا أن نلَخّص حياته، ستتجسد في هذه الجملة "الجبن سيد الأخلاق". كانت كلمة "لا" خصمه اللدود، وعنوانه هو كلمة "نعم". هذا ما تعلمه وردده كثيرًا حتى حفظه أولاده من بعده عن ظهر قلب.. فكانوا يتهاونون في حقهم لأقصى حد، ويصمتون عن الخطأ لأن كلمة "لا" هي جريمة لا تغتفر.. وكان هو أيضًا ذليلاً لرئيسه بالعمل، لا يستطع أن ينطق بكلمة واحدة في وجهه، حتى لو كانت هذه الكلمه "كلمة حق".
ربما السبب في ذلك أنه نشأ في بيت عسكريّ، فكان والده يعامله كأحد الجنود.. لا مجال للمناقشة، فكل شىء يقال يجب أن ينفذ... فما كان منه إلا أن أنشأ هو الآخر أولادَه كذلك. كان كلما رأى مظاهرة.. نظر لها بالكثير من الاشمئزاز والقرف وسخّف منها ومن أصحابها ووصفهم بقِلّة الاحترام وبأنهم أناس لديهم فراغ وليس لديهم عمل.
وجاءت ثورة 25 يناير.
وكعادته.. أخذ يسب كل من يشارك في هذه الثورة.. وردد عنهم كل ما قيل (أجندات خارجية... قِلة مندسة... وجبات كنتاكي... وغيرها من التهم). كان يصفق لكل رأي مضاد للثورة.. وذات يوم حينما تحدث إمام المسجد عن طاعة ولي الأمر وعدم الخروج على الحاكم والفتنه التي يُحدِثُها هؤلاء الشباب.. استمع بإنصات... وذهب لبيته يردد ما سمع.. وأولاده يعيدون ما قال كببغاء لا يعي ما يقول.. بل والأدهى والأمَرُّ من ذلك حديثه عن الشهداء... كيف لقِلة مندسة أن يطلقوا عليهم شهداء؟
إلى أن جاء هذا اليوم.
فهو لم يكن يعلم أبدًا أن الرياح أحيانًا لا تنتظر أن تُفتح لها الأبواب... فتقتلع البيت من جذوره. لم يكن يدري أن الحائط الذي يسير بمحاذاته قد يأتي عليه يومٌ ويتحطم فوق رأسه. ولم يكن يعرف أن الرؤوس من الممكن أن تُقطع، حتى وإن كانت محنية. لم يكن يدرك كل ذلك....
ذهب ابنه بدافع من فضوله... وبيَد القدر أيضًا.. ليرى ما يحدث في التحرير، ليرى هؤلاء الخائنين الذين يخربون ويدمرون البلد.. فهو لم يذهب إلا ليضحك عليهم.. ليسخر منهم.. ليثبت للجميع، ولنفسه أنهم ليسوا سوى شباب مستهتر. وقد اختاره القدر.... ليكشف له عن وجه الحقيقة.
فبينما هو واقف بعيدًا يشاهد هذه الجموع الغفيرة.. أصابته تلك الرصاصات الطائشة من أحد عساكر الشرطة. فحمَلَه من كان يسخر منهم، وذهبوا به إلى المستشفى غارقًا في دمائه، والنزيف لازال مستمرًا.علم أبوه بما حدث ....
صدمةٌ....
هلع....
علامات تعجب واستفهام كثيرة.
وكأنهم يتحدثون عن شخص آخر غير ابنه... ابني أنا؟.... مظاهرة؟.... مصاب؟.... تحرير؟!!
ولكن ماذا تفيد الأسئلة إذا كان القدر قد شاء؟
ذهب إلى ابنه.. الأطباء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا.. أو أن يوقفوا النزيف.. طلب أن يقابل والده.. وقال له هذه الكلمات:
"عندما هاجمتني الرياح بحثت عن هذا الباب الذي أوصيتني به لأغلقه في وجهها.. لكنني لم أجده.. الرياح يا أبي لا تصيب فقط من يقف في وجهها، ولكنها تصيب كل من يأتي في طريقها.. وإن كان لابد من الموت.. فلمَ نموت جبناء ؟.. من أصابني ليس شابًا طائشًا ممن تسخر منهم، ولكنه شرطي ممن تصفق لهم". قالها.. ولفظ أنفاسه الأخيرة.
ظل الرجل صامتًا.. واجمًا.. لا يفهم.. ولا يعي.. تمر أمام عينيه كل كلماته ومعتقداته وأفكاره. ولأن إكرام الميت دفنه.. شرع في إجراءات استخراج الجثة من المستشفى. وكانت الطامة الكبرى.... سبب الوفاة: غير معروف.. وكانت أول "لااااا" ينطقها.... كيف لا تعرفون سبب الوفاة؟ ابني أصيب في ميدان التحرير بلا ذنب.. ويوجد شهود عيان على ذلك. قال "لا"... ولكن لم يجد من يستمع له.
فهكذا نحن البشر لا ندافع إلا عما يخصّنا ويهمّنا.
لم يشعر بنفسه إلا وقدماه تأخذه هناك.. إلى الميدان.. والدموع كأنها فيض منهمر. أنا من كنت يومًا أسخر من هؤلاء الشهداء.. أصبح ابني واحدًا منهم... ولكن مع الفارق، هو ليس شهيدًا.. فهو لم يمت مثلهم دفاعًا عن قضية..
هناك في الميدان.... رأى ما لا عين رأت. مسلمًا ومسيحيًا تتشابك أيديهما ويهتفان معًا بنفس الشيء. شابًا يقتسم رغيف عيش مع شخص آخر وهو لا يعرفه، وليس كما قيل وجبة كنتاكي. شبابًا فى العشرينيات من عمرهم.. يقفون بلا سلاح أو حتى حجارة في وجه قنابل مسيلة للدموع ورصاص مطاطيّ وحيّ. من فقد عينيه ولكنه في الميدان يردد ما يؤمن به، ومن يقف بقدم واحدة ليدافع عن كلمة حق. سيدةً عجوزًا تحملت آلامها وجاءت لتقول بأعلى صوت: "لااا".
أجهش بالبكاء.... ليس على فراق ابنه وحسب، ولكن على عمر قد ضاع أمام عينيه هدرًا. وجد يدًا تربت على كتفيه... وحضنًا يضمه... وشابًا يقول له:
" هدِّىء من روعك يا أبي.. فمصر ستصبح بخير.. أقسم لك أنها ستصبح بخير".
اشتد في البكاء أكثر وتذكر كلماتهم:
"أجندات خارجية.... شباب خائنون.... قلة مندسة".
أمسك الشاب بيده وقال له: اهتف معي:
الشعب يريد إسقاط النظام..
فأمسك بيده وظل يهتف ويهتف ويقول :"لا للاستبداد... لا للظلم.... يسقط الطاغية".
أولها... السير بجانب الحائط أسلم طريق للنجاة.. وآخرها.. من خاف سلم.. فكان لا يفتح فمه مهما ذاق من عذاب أو إهانة أو مذلة.. وبالطبع غرس كل فلسفته في الحياة في أولاده.. فعلمهم ألا يقفوا في مهب الرياح، وأن يغلقوا أبوابهم بإحكام خوفًا من أيّة عاصفة قادمة.. وأن يحنوا رؤوسَهم حتى لا تقطع رقابهم. كان هذا هو منهجه.. فإن أردنا أن نلَخّص حياته، ستتجسد في هذه الجملة "الجبن سيد الأخلاق". كانت كلمة "لا" خصمه اللدود، وعنوانه هو كلمة "نعم". هذا ما تعلمه وردده كثيرًا حتى حفظه أولاده من بعده عن ظهر قلب.. فكانوا يتهاونون في حقهم لأقصى حد، ويصمتون عن الخطأ لأن كلمة "لا" هي جريمة لا تغتفر.. وكان هو أيضًا ذليلاً لرئيسه بالعمل، لا يستطع أن ينطق بكلمة واحدة في وجهه، حتى لو كانت هذه الكلمه "كلمة حق".
ربما السبب في ذلك أنه نشأ في بيت عسكريّ، فكان والده يعامله كأحد الجنود.. لا مجال للمناقشة، فكل شىء يقال يجب أن ينفذ... فما كان منه إلا أن أنشأ هو الآخر أولادَه كذلك. كان كلما رأى مظاهرة.. نظر لها بالكثير من الاشمئزاز والقرف وسخّف منها ومن أصحابها ووصفهم بقِلّة الاحترام وبأنهم أناس لديهم فراغ وليس لديهم عمل.
وجاءت ثورة 25 يناير.
وكعادته.. أخذ يسب كل من يشارك في هذه الثورة.. وردد عنهم كل ما قيل (أجندات خارجية... قِلة مندسة... وجبات كنتاكي... وغيرها من التهم). كان يصفق لكل رأي مضاد للثورة.. وذات يوم حينما تحدث إمام المسجد عن طاعة ولي الأمر وعدم الخروج على الحاكم والفتنه التي يُحدِثُها هؤلاء الشباب.. استمع بإنصات... وذهب لبيته يردد ما سمع.. وأولاده يعيدون ما قال كببغاء لا يعي ما يقول.. بل والأدهى والأمَرُّ من ذلك حديثه عن الشهداء... كيف لقِلة مندسة أن يطلقوا عليهم شهداء؟
إلى أن جاء هذا اليوم.
فهو لم يكن يعلم أبدًا أن الرياح أحيانًا لا تنتظر أن تُفتح لها الأبواب... فتقتلع البيت من جذوره. لم يكن يدري أن الحائط الذي يسير بمحاذاته قد يأتي عليه يومٌ ويتحطم فوق رأسه. ولم يكن يعرف أن الرؤوس من الممكن أن تُقطع، حتى وإن كانت محنية. لم يكن يدرك كل ذلك....
ذهب ابنه بدافع من فضوله... وبيَد القدر أيضًا.. ليرى ما يحدث في التحرير، ليرى هؤلاء الخائنين الذين يخربون ويدمرون البلد.. فهو لم يذهب إلا ليضحك عليهم.. ليسخر منهم.. ليثبت للجميع، ولنفسه أنهم ليسوا سوى شباب مستهتر. وقد اختاره القدر.... ليكشف له عن وجه الحقيقة.
فبينما هو واقف بعيدًا يشاهد هذه الجموع الغفيرة.. أصابته تلك الرصاصات الطائشة من أحد عساكر الشرطة. فحمَلَه من كان يسخر منهم، وذهبوا به إلى المستشفى غارقًا في دمائه، والنزيف لازال مستمرًا.علم أبوه بما حدث ....
صدمةٌ....
هلع....
علامات تعجب واستفهام كثيرة.
وكأنهم يتحدثون عن شخص آخر غير ابنه... ابني أنا؟.... مظاهرة؟.... مصاب؟.... تحرير؟!!
ولكن ماذا تفيد الأسئلة إذا كان القدر قد شاء؟
ذهب إلى ابنه.. الأطباء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا.. أو أن يوقفوا النزيف.. طلب أن يقابل والده.. وقال له هذه الكلمات:
"عندما هاجمتني الرياح بحثت عن هذا الباب الذي أوصيتني به لأغلقه في وجهها.. لكنني لم أجده.. الرياح يا أبي لا تصيب فقط من يقف في وجهها، ولكنها تصيب كل من يأتي في طريقها.. وإن كان لابد من الموت.. فلمَ نموت جبناء ؟.. من أصابني ليس شابًا طائشًا ممن تسخر منهم، ولكنه شرطي ممن تصفق لهم". قالها.. ولفظ أنفاسه الأخيرة.
ظل الرجل صامتًا.. واجمًا.. لا يفهم.. ولا يعي.. تمر أمام عينيه كل كلماته ومعتقداته وأفكاره. ولأن إكرام الميت دفنه.. شرع في إجراءات استخراج الجثة من المستشفى. وكانت الطامة الكبرى.... سبب الوفاة: غير معروف.. وكانت أول "لااااا" ينطقها.... كيف لا تعرفون سبب الوفاة؟ ابني أصيب في ميدان التحرير بلا ذنب.. ويوجد شهود عيان على ذلك. قال "لا"... ولكن لم يجد من يستمع له.
فهكذا نحن البشر لا ندافع إلا عما يخصّنا ويهمّنا.
لم يشعر بنفسه إلا وقدماه تأخذه هناك.. إلى الميدان.. والدموع كأنها فيض منهمر. أنا من كنت يومًا أسخر من هؤلاء الشهداء.. أصبح ابني واحدًا منهم... ولكن مع الفارق، هو ليس شهيدًا.. فهو لم يمت مثلهم دفاعًا عن قضية..
هناك في الميدان.... رأى ما لا عين رأت. مسلمًا ومسيحيًا تتشابك أيديهما ويهتفان معًا بنفس الشيء. شابًا يقتسم رغيف عيش مع شخص آخر وهو لا يعرفه، وليس كما قيل وجبة كنتاكي. شبابًا فى العشرينيات من عمرهم.. يقفون بلا سلاح أو حتى حجارة في وجه قنابل مسيلة للدموع ورصاص مطاطيّ وحيّ. من فقد عينيه ولكنه في الميدان يردد ما يؤمن به، ومن يقف بقدم واحدة ليدافع عن كلمة حق. سيدةً عجوزًا تحملت آلامها وجاءت لتقول بأعلى صوت: "لااا".
أجهش بالبكاء.... ليس على فراق ابنه وحسب، ولكن على عمر قد ضاع أمام عينيه هدرًا. وجد يدًا تربت على كتفيه... وحضنًا يضمه... وشابًا يقول له:
" هدِّىء من روعك يا أبي.. فمصر ستصبح بخير.. أقسم لك أنها ستصبح بخير".
اشتد في البكاء أكثر وتذكر كلماتهم:
"أجندات خارجية.... شباب خائنون.... قلة مندسة".
أمسك الشاب بيده وقال له: اهتف معي:
الشعب يريد إسقاط النظام..
فأمسك بيده وظل يهتف ويهتف ويقول :"لا للاستبداد... لا للظلم.... يسقط الطاغية".