بلدي وإن جارت

كانت هناك على ناصية الشارع تلقي مجنزرة بثقلها على الأسفلت الذي لم يعتد على جنازيرها الثقيلة وعليها بعض من العسكر بزيهم اللافت للنظر, أصطدم بناظريه ذلك المشهد في صباح السبت الباكر عندما فتح نافذة غرفته, تذكر أيامًا شاء أن ينساها دومًا ولو كان بيديه لمَحاها من الذاكرة..
جندي طبيب.. أحمد محمد عبد الحي محمد
أفنـــــدم
سين أربعة طب.... تعالى هنا
كان مايزال جنديًا مستجدًا، ولم يعرف شيئًا.. وصراحة لم يرغب أن يعرف ماهية تلك السين أربعة التي نطقها الصف الواقف على رؤوسهم, كما لو كان واقفًا في سوق نخاسة, الأفضل في تلك الظروف كما تراءى له أن يظل هكذا منتظرًا المجهول كما هو بخيره أو بشره, لا يسأل ولا يستفسر عما سيحدث غداً فقط هو يسير في الركب, على عكس آخرين اعتبروا أنفسهم يُساقون......
انتقل أخيرًا إلى وحدته تلك السين أربعة التي تشكل نقطة منسية في الكون..أو نقطة سوداء في بحر من الرمال المتلاطمة, كانت المرة الأولى التي يرى فيها دبابة عن قرب.. ذلك الكائن الثقيل الذي كان يترك غمامة في نفسه، بمدفعها الشامخ في السماء الذي يعلن عن وجودها، وقسوتها غير المبررة أبداً, مختبرًا بذلك خاصية إنسانية صميمة في ذاته.. ألا و هي التكيف على كافة أشكال الحياة القاسية.. والتي أبقت الإنسان حتى الآن على وجه الأرض, ها هو يختبر تلك النظريات على أرض الواقع, يبدو الأمر كابوسًا في البداية.. ولكن مع مرور الوقت يصبح جزءا من المكان، و يصبح المكان جزءا منه, كأنه ينحت داخله خصائصه المقيتة ويتشكل داخله حتى يظن أنه سيبقى في ذلك المكان إلى أبد الآبدين.
تلك النظرة التي رأها في عين ابن أخته ذو العشرة أعوام كانت تختلف تمامًا عن نظرته أول مرة لذلك الكائن الثقيل... الدبابة, كان الصغير ينظر إليها نظرة إجلال غير عادية كأنه يرى شيئًا خارقًا للطبيعة , طلب منه الصغير أن يحمله ليجلس على جسدها البارد الصلب, ولم يشأ هو أن يقترب أكثر, كأنه كان يخشاها ولكنه رضخ في النهاية..... " بعد إذنك يا ..... " وفكر في ثواني .. كان يمقت تلك الكلمة" دفعة "... لم يكمل عبارته وابتسم له الجندي المصلوب على المجنزرة وأومأ برأسه.. أراد الصغير أن يظهر معه في الصورة. "إلا هذا الطلب " ألتقط له الصورة سريعًا والطفل لم يرفع نظره عن صديقته " الدبابة "، التي تمنى أن يقتنيها كلعبة خاصة به بجانب طائرته النفاثة الموضوعة على رف ألعابه.
كانت حربًا بكل ما تعنيه الكلمة, قتلى، وجرحى، ورصاص حي، وقناصة، و مولوتوف... ودماء يضج بها المكان لتصبح رمزًا أو علامة تلتصق بالذاكرة ولا تبرحها أبدًا, كان قد جاء بالأمس، بعد أن دعاه صديقه وزميله في المستشفى الواقعة في حي من أحياء القاهرة المُعدمة, هناك في وحدته العسكرية قبل سنوات كان أقصى ما يتعامل معه جرح سطحي نتيجة آلة حادة أصابت أحد الجنود، أثناء صيانة أو ما شابه أو حتى إغماء أصاب جنديًا من حرارة شمس لا ترحم.....أما الأن رؤوس مهشمة، وعظام مفتتة، وعيون مفقوعة, كانت لحظات صعبة الإدراك بالنسبه له... انتصف النهار، وهدأت الشمس.. ولم تهدأ وتيرة الأحداث في هذا اليوم الدامي, الساقطون في تزايد ... وهو و زملاؤه يلهثون لمحاولة الإبقاء على أنفاس أخيرة متصاعدة هناك في "وحدة الجبهة".. في الميدان هكذا أسموها، كانت قريبة من المتحف حيث يتوالى البلطجية كسيل جارف من تلك الثغرة ويهاجمون المتظاهرين بجميع أشكال المقذوفات.
هناك أحداث لا يستطيع الزمن أن يحتويها, تكون أكبر من أبعاد الزمان والمكان, تتفرد تلك الأحداث بتصاعدها وتلاحقها وكأنها ترغم الزمن أسيراً لديها.. تسوقه أينما شائت، وكيفما شائت على عكس المعتاد, كأنما تسوق وتُسيّر الزمن, كأن الأحداث هي النهر والزمن هو السفينة, تلك الأحداث تبقى حية إلى الأبد برغم انتهائها, تبقى داخلنا ونشعر أنها مستحيلة أن ندركها بالكامل..
وأحياناً تعجز الكلمات عن وصفها.. وإن أدركنا أو وصفنا فالبعض وليس الكل فنحن نعجز عن وصف الألوان, عن وصف الأحمر أو الأسود, عن وصف الحب ,عن وصف الشجاعة..... عن وصف البسالة التي تجلت أمام عينيه في شعب, كأن هذا الشعب غير الشعب الذي يعرفه منذ أدرك الحياة.. منذ أدرك هذا الوطن وأدرك شوارعه.. بالسائرين المنصهرين فيها, كان يرى في عيني ذلك الشاب قوة ما خفية... كأن داخله كائنٌ أسطوري ككائنات الرخ والعنقاء, إنها المرة الثالثة الذي يأتي له فيها بجرح آخر ينزف في مكان مختلف, يلتقط الطبيب الشاب أداته التي بردت قليلاً بعد أن ألهبها ببعض الكحول الذي أشعله ليطهرها.. وبيدين مرتعشتين بدأ في خياطة جرح قطعي في الرأس, وأنهى " أحمد "على عجل خياطة الجرح ليعود الشاب مرة أخرى لميدان المعركة.... حيث أطفال في عمر الزهور يحملون الحجارة إلى المتظاهرين على الجبهة... وحيث امرأة تملأ زجاجات الماء وتخترق الصفوف الأمامية بها لتسد رمقًا جافًا... وحيث هناك يُجلون مصابين إلى النقط الطبية... وحيث أطباء إستشاريون، وجراحون.. كان فقط يتمنى أن يقابل أحدهم في أحد أروقة المؤتمرات ليسلم عليه فقط.... إنها ملحمةٌ تجلت أمام عينيه... ملحمة لن تتكرر.. يتذكرها كلما نظر إلى ذلك الجرح الذي أكتشفه في نهاية اليوم ولم يشعر أصلاً به عند الإصابه.
وضع بضع ورقات من فئة المائة جنيه في جيبه، وشق طريقه هو وصديقه بعد أن حصلا على (قبض) شهر متأخر، وتركا المستشفى المغلقة تقريبًا إلا أقسامًا قليلة بعد هجوم بلطجية بالأمس إثر موت أحدهم نتيجة أعيرة نارية في مشاجرة في الجوار, وأنطلقا إلى أحد مختبرات التحليل لإجراء فحوصات مطلوبة قبل السفر.. بعد أن أقنعة صديقه بأن هناك مركزًا طبيًا في دولة خليجية في حاجه ماسة إلى تخصصه... كان "أحمد " يسير معه على مضض وهو يتردد تارة، ويرفض تارة، ويقتنع بوجهة نظر صديقه الذي يشجعه على السفر معه.. حيث أن البلد " حالها واقف " ومر شهر على الثورة والأمور تسوء, هو لا يفكر الآن إلا في هناك... عقله ووجدانه تركه هناك بجوار المتحف، وعند المسلة، وفي المستشفى الميداني في المسجد, وجوه الشهداء ونظرات المصابين التي كانت تائهة وموقنة في نفس الوقت, كان لأول مرة لا يشعر بامتعاض من إرتداء معطفه الأبيض طوال الوقت، أو حتى بقطعة الورقة التي لصقت على صدره " د/ أحمد جراحة "..
ذكرته بأخرى كانت موضوعة أيضًا على صدره.. ولكن حينها نزعها خجلًا بعد أن أنطلق مع زملائه ليقوموا بتنظيف الصرف بالأمر.
" أحمد ؟"
" ها .....؟ ماذا؟"
" هل أنت بخير؟"

أحياناً يكون التفكير قاتلاً... كان كذلك مع "أحمد ".. كان شغله الشاغل ذلك القرار الذي أعتبره مصيريًا.. تذكر ذلك الشاب، الذي يسكن داخله الرخ والعنقاء والذي جُرح لأول مرة فوق الحاجب... ومرة في رسغه الأيمن.. والمرة الثالثة كانت في رأسه.. أيقن وقتها أن هذا الشعب غير عادي.. خارق لكل قوانين الطبيعة.. هل يقول فقط هكذا لأنه ينتمي إليه ؟
هل هناك شعوب أخرى خارقه للطبيعة وللتصور؟ ... أللاستبسال والاندفاع للموت بصدورهم العارية معنى آخر غير... مِصري؟؟
أم أن تلك هبة للإنسان؟.... صدق الرسول....." لقد قررت... لن أسافر..... ؟!"
نظر إليه صديقه وهو في حالة صمت مطبق... وملامح متجمدة
" أحمد.... عليّ أن أقول لك شيئًا
.......
نتيجة الفيروس إيجابية.


الكاتب:  محمد السيد  المدوّنة: إنسان في عتمة نور
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة