هوس

أرق أشياء كثيرة مبعثرة وموسيقى جاز.
تتذكره وتأخذ نفسا عميقا من سيجارتها مع البقايا المرة للقهوة في قعر فنجانها. تقرر أن تصنع لعنة خاصة من أجله. لعنة تليق بعذاباتها في حبه, ستجعلة يسهر ليالٍ طويلة ربما, أو يهيم في الطرقات حافي القدمين بلا هدف. أو يرى وجهها في كل الوجوه وعلى صفحة الماء وفي كل الاشياء الحية والجامدة.

تتذكر أنها لا تتقن التفوه باللعنات اللفظية, لا تتذكر الكلمات التي يجب أن تقال.

كل النساء العاشقات يعرفن كيف يصنعن اللعنات, فقط لو استطاعت أن تتذكر الكلمات وتلقيها فى وجهه, تخبره بثبات وثقة أن كل ما فعله بها سينقلب عليه مثلما فعلت السيدة في الفيلم الذى لا تتذكره.

تنفث الدخان وتنظر لفنجانها الفارغ وتقرر أن تصنع تعويذة بدلاً من اللعنة. ستصنعها من ذكرى حزينة لليالٍ تركها فيها وحيدة, تحاول جاهدة تذكر ليلة تركها فيها وحيدة, هناك تلك الليلة التى تأخر فيها؛ غضبت كثيرا وعاد ليعتذر ويضع على عنقها عقدا من اللؤلؤ الأبيض. تبسمت عندما تذكرت, البسمات لا تصلح لصنع تعاويذ العذاب, واللون الأبيض حتما يفسد التعويذة.

ربما تصنعها من ذكرى لخيانته لها, متى فعلها؟ لا تتذكر. هو أصلاً لم يفعلها. تعتصر ذهنها، هو يضحك للشابات الجميلات في الشارع وفي الأسواق, الحقيقة هن يضحكن له يحاولن لفت انتباهه لكنه لا يعبأ. لعله يتظاهر بذلك عندما تكون معه ثم يفعل ما بدا له عندما يكون وحده, ربما يفكر في النساء الأخريات ذوات التنانير الملونة. لكن "لعله" و"ربما" لا تصلح لصناعة التعويذات؛ لن تكون تعويذة محكمة.

تصنع فنجانا أخر من القهوة أكثر مرارة وتبحث ضمن الفوضى المحيطة عن أشياء تخصه لتكمل بها تعويذتها التي لم تصنعها.

تتذكر أن أشياءه كلها فى الخزانة الخشبية القديمة, ربما الدب الذي أهداها إياه فى عيد العشاق مازال يحمل رائحة كفيه, أو ربما زجاجة العطر التى اشتراها لها فى عيد ميلادها, أو زوج الأقراط المتدلية البراقة التي أهداها لها بلا مناسبة.

تزداد حيرتها فالخزانة مليئة بالأشياء, كل الأشياء تحمل رائحته, الخزانة نفسها تحمل رائحته, الخشب البني العتيق بلون عينيه ولكن بدون اللمعة التى يحملها إنسان عينه عندما ينظر إليها, أشياء كثيرة مكدسة تحمل رائحته أهداها لها بمناسبات أو بدون. صندوق خشبي صغير أهداه لها لتحفظ فيه حليها وقررت أن تحتفظ فيه بخطاباته, أخبرها مرارا أنه لا يجيد كتابة الخطابات. أخبرها أنه لا داعٍ للخطابات لأنه دائما هنا.

مازال الصندوق خاليًا؛ هو لم يرسل خطابات.

تزداد حيرة وحنقا, لابد أن يتعذب فى غيابها مثلما تفعل في غيابه، تريد تسكن أفكاره عندما تغيب قليلاً مثلما يملأ الأشياء كلها عندما يذهب, تريده يصاب بهوس الفقد كلما أغلقت الباب كما تفعل كلما غادر، أن يفتقدها حتى وهىي بجواره مثلما تخشى ضياعه وهو ملء يديها وعينيها, يتشبث بيديها وهي مستلقية بجواره كما تشبك ذراعيها حوله عندما يريح رأسه على صدرها. تريده يخشى النوم لكيلا يفقدها في غفوته مثلما تعجز عن إغلاق عينيها خشية تلاشيه ما بين إغماضه وارتداد طرف.

تبعثر الأشياء التى جمعتها لتكمل مشهد الفوضى حولها وتطوي كتاب تعويذات حاولت الاستعانة به وفشل غير مرة فى مد يد العون. تجمع البخور في "برطمان" صغير وتحكم إغلاقه وتضعه على رف كبير بجانب تعويذات أخرى لم تكتمل. تبكى قليلاً وتختفى عينيها بين خيوط الكحل الممزوج بالدمع وتتذكر أخر كلماته قبل أن يصفق الباب خلفه عندما غادر في الصباح، أخبرها أنها "مجنونة".

هي تدري في قرارة نفسها أنها مجنونة ربما, أو مهووسة بالفقد ولكنها تعلم أيضا أنه يعود كل مساء وأنه يغفر لها حماقتها قبل أن يتلاشى صدى صفق الباب في آذانها.

تسرع لترتيب الحجرة, تغسل وجهها وتضع قليلاً من الاصباغ, تعدل هندامها وتضع موسيقى كلاسيكية بدل موسيقى الجاز وتذهب لتنتظره في الشرفة. في نفس موعده يصل حاملاً باقة زهور وعلبة ملونة صغيرة وتسرع هي لملاقاته على الباب, يلتقيان بدون عتاب يهديها زهورا وقطعة حلي وفي طريقهما يمر بالرف الذي تحتفظ فيه بتعاويذها ينظر في عينيها معاتبا، ويسألها: هل فشلت التعويذة الجديدة؟ تبتسم في خجل وتخبره أنها نجحت والدليل أنه هنا.

يرفع رأسها لأعلى حتى يرى عينيها ويخبرها أن تعويذتها ليست السبب ولكنه يعود في كل مرة بسبب لعنة. يخبرها أنها لعنته وتعويذته وتميمة حظه وأنها "مجنونة".
تمت


الكاتب:  الحسيني أحمد المدوّنة: desert rose
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة