إرسال واستهبال

لم أعجب كثيرًا عندما فتحت عيني لأجد سوادًا أمام عيني و ضجيجًا  فقد كنت أستقل القطار. السواد كان امرأة في منتصف الأربيعينيات.. وهي النموذج الحي للموظفة المصرية.. مع كثير من النظرات الثاقبة والتي تشعرك بأن غالبًا أوراقك غير مكتملة، أو أن ختم النسر غير موجود. وحتى تكون الصورة مكتملة في ذهنك سأعطيك وصفًا للمشهد: أنا أجلس في أول عربة القطار "الثانية المكيفة حيث ينظر إليك من في باقي القطار على أنك وغد مرفه آخر.." رقم المقعد 2 وهذا يعني أن باب العربة المهتريء لايبعد عنك سوى ملي سنتيميترات قليلة.. مما يعطيك إحساس بأنك تجلس مرحاض القطار الذي لايبعد هو الآخر عن الباب سوى متر تقريبًا.. أمامي الحائط كما يتضح من رقم المقعد.. ليس أمامي سوى مساحه صغير لأضع فيها قدميَّ مثنيتين.. لتصطدم بجدار العربة المقابل، هنا يأتي دور الهواية المفضله لدى ركاب جميع المواصلات طويلة المسافات.. النوم ..الاستيقاظ... "تذكرتك يا أستاذ". النوم...الاستيقاظ ..."دي عربيه واحد؟". النوم ...الاستيقاظ ...." ممكن تتاخر شوية.. مش عارف أقف!!"
الانتباه.. ثم الدهشة... حتى تنقشع السحابة التي تغطي عينك.. سحابة ما بعد النوم.. لتجد المرأة السوداء.. أو قل المرأة الموظفة.. إن اردت التعبير على طريقة " المرأه الحديدية "، ونظرات الموظفين التي تحدثنا عنها.. واقفة هي أمامي في المنطقة التي أخبرتك سابقًا أنها لا تسع سوى لأن أضع قدميَّ مثنيتين... بعدما رأت الدهشة في عينيَّ.. راحت تقلب نظرها في السقف والواقفين... إنها نظرة "الاستهبال" يا عزيزي... التي تشعر وكأنها تحث عقلك الباطن على أن لا شيء موجود أمامك.. أنت واهم يا عزيزي. هنا لاحظت أن عربة القطار لايوجد بها موطيء قدم.. رأيت محصل العربة يبدي تذمرًا مصطنعًا.. وهو يحاول أن يخبر الواقفين أن مكانهم ليس هنا وأن هذا لايجوز..
لكنه مسكين.. ماذا سيفعل كيف سيجبر هذه الجحافل أن تتحرك إلى عربة أخرى؟؟... حاول أن يؤدي دوره الطبيعي في أن يسأل الواقفين عن تذاكرهم... فسأل المرأة التي تشاركني الشهيق والزفير...
هو: التذكرة يامدام.
هي: مصلحة... "نظرة موظفين"
هو: الكارنيه...
هي: نسيته.. "نظرة موظفين"
هو: طب وأنا أعرف منين إنك مصلحة
هي:أنا أعرف الريس.. "ريس القطار" .... "نظرة موظفين"
هو: وماتعرفنيش؟؟!!!
ويستمر الجدل العقيم في وضع مهتريء... لايسمح لك إلا بأن تغمض عينيك وتتمنى لو أن القطار يختصر النصف ساعة المتبقية لدقيقتين.
المشهد السابق ماهو إلا مشهد صغير من مسلسل الاستهبال القومي في مصر... المشهد يتكرر في أماكن عدة.. تراه في المترو يؤديه ذلك الذي يقف أمام الباب بينما يتبقى أمامه 10 محطات أمام محطته، لكنه يرضي غروره ويكسب شخصيته ثقة زيادة بأنه الذي استطاع أن يحافظ على مكانه أمام الباب فيما رضخ المغفلون الآخرون بالتدحرج للخلف. وحينما تسأله وقد اقتربت محطتك... حضرتك نازل؟؟ حتى تقترب من الباب لتخرج.. يجيبك بذات النظرة في اللاشيء.. والبحلقة في السقف؛ ليوحي إلي عقلك الباطن أنه غير موجود أو غير مرئي.. المسلسل لايتنهي هنا فحسب... بل يمتد لتراه في مكانه المعهود في المصالح الحكومية.. لتحصل على ورقه ما يحتاجونها بشدة في المصلحة الأخرى.. لأسباب يعجز عن أمثالي فهمها... فتخبرك الموظفة: استنى شويه يا أستاذ.. ورايا حاجات !!
تجدها في حوار شائق مع زميلتها في العمل عن الحمقاء ابنتها التي لا تجيد عمل صينية المكرونة.. وكيف أن الأيام كفيلة بتعليمها غدًا..فتجد نفسك مدفوعًا بسبب ضغط الدم أن تتقمص دور برومثيوس من أجل سرقة النار.. أقصد الورقة.. فتلح عليها.. "لو سمحت المصلحة اللي رايحالها الورقة هاتقفل وأنا مش ناقص عطلة".. فتهب فيك وكأنها "موقد كيروسين".. أوقد حديثًا.. لتخبرك بأنها "عارفة شغلها كويس وإنها مش محتاجه أمثالك تعرفها تعمل ايه".. وبعد أن تخرج كل ما في جبعتها من كبت نفسي.. سببه المرتب والعيال والمصاريف.. تخرج لك بالورقة.. هنا تشعر وكأنك حصلت على حريتك من سجن الباستيل ذاته.
الحديث عن فن الاستهبال وثقافته.. والطرق التي تجعل منك كائنًا استهباليًا بطبيعتك.. لايحتاج الكثير من المجهود.. فقط انظر حواليك.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة