بعيد المنال

مثله مثل كل شخص يكره النقد... يكره أن يرى الآخرون عيوبه فيحاول أن يخفيها عن نظر الجميع. وربما تمنى أن يخفيها عن نفسه حتى لا يجلد ذاته... يتمنى أن يحظى باحترام وحب كل الناس. وذات يوم جلس هو وأصدقاؤه يتبادلون أطراف الحديث فسألهم  ماذا تتمنون؟
فقال أحدهم: أتمنى قصرًا فارهًا وفخمًا ومالاً كثيرًا أحقق به ما أريد.
وقال الأخر: أريد أن يذيع صيتي؛ أن أكون ذا مركز ومكانة عالية.
وتوالت الأمنيات واختلفت.... إلى أن جاء دوره... فسألوه وماذا تريد أنت؟
فنظر إلى السماء مليا ثم نظر لهم وتفوه بكلمة واحده: الكمال.
الكمال؟... استعاذوا جميعًا من الشيطان الرجيم وطالبوه بالاستغفار فالكمال ليس الا لله.. فقال لهم: نعم الكمال لله وحده.. ولكن هل نسيتم أن الله قادر على كل شيء.. ولمَ كل هذه الثورة على؟.. أنتم ايضًا تبغون الكمال ولكن بطريقه غير مباشرة.. حينما تتمنى أن تمتلك فيلا فارهة وفخمة فلأنها تنقصك.. وعندما تمتلكها ستبحث عن شيء آخر ينقصك.. إذن فأنت تبغي الكمال ولكنك لا تعي.. كل من يأتي لهذه الحياة إلى أن يموت.. يسير فى دائرة مفرغة اسمها الكمال.. يبحث عنها ولا يجدها.. يتوهم أنه امتلكها.. ليفاجأ أنها بعيدة كل البعد عن متناول يده.
- إذاً أنت تعرف أنك لن تحصل عليه فلمَ تتمناه؟!
- ليقينى بأن الله قادر على كل شيء. ضربوا كفًا بكف ساخرين من حديثه متعجبين له.. وتخيلوا أنه قد فقد عقله.
وفي طريق عودته للمنزل سيطرت عليه الفكر... هو قد سئم أخطاءه.. أرهقته ذنوبه.. أعيته نظرات الناس وسخريتهم وسخطهم.. مل زوجته التي لا تكف عن الثرثرة عن أزواج صديقاتها اللذين أفضل منه، وعن الفرص التي رفضتها لأجله لتجد هذا الجحيم معه.. لم يعد يطيق كلمات رئيسه الغاضبة دوما.. لم يعد يتحمل أعين جيرانه بأنه الأدنى والأقل والأضعف.
شعر بالحياه تضيق رويدًا رويدًا وكأنها تخنق أنفاسه.. فهو لا يجد راحة في أي مكان يذهب إليه.. ولا يجد راحة في أي شخص يتحدث معه.. ورغم أنه يسير بالشارع في الهواء الطلق إلا أنه شعر أنه في حجرة مظلمة محكمة الأبواب تقترب جدرانها أكثر وأكثر.. هو يشعر بالغربة في كل شيء يفعله ومع كل شخص يقابله وفي كل مكان يجلس فيه.
لن يعود للبيت.. فإن كان الهواء لا يشفي غليله.. فكيف لبيت بجدرانه بزوجته بهمومه سيشفى غليله؟.. ظل يسير شاردًا لا يعلم أين يذهب.. كل مايعرفه أنه لا يريد العودة للبيت.. وهو سائر لمح هذا المسجد من بعيد فساقته قدماه إليه.. ثم توضأ وشرع فى الصلاة.. أطال في السجود وفي البكاء أيضًا.. أخذ يبكي ويدعو: " الكمال يالله.. لا أبغي سوى الكمال.. أعلم أنه مستحيل ولكن ألم تقل وقال ربكم ادعونى أستجب لكم؟... وأنا أتمنى الكمال.. فأنت لم تشرط الدعاء.. يااااااااارب الكمال.. أريد أن أحظى برضا كل الناس.. فقد تعبت من تجريحهم.. يارب كرهت ضعفى وهوانى عليهم"..  راح في سبات عميق وهو يبكي ويدعو.. ولازالت هذه الكلمة على شفتيه: الكمال.
وفي نومه رأى هذا الشيخ الذي يشربه ماءً.. وحينما سأله: ما هذا الذي أشربه؟ قال: الكمال... وهل هكذا سأصبح كاملاً بلا أخطاء أو ذنوب ترهقنى.. فقال له: نعم أنت الأن كامل. استيقظ من نومه على أذان الفجر والمصلون يجيئون وتتردد في أذنه جملة واحدة: "نعم.. أنت الأن كامل."
صلى الفجر وذهب عائدًا لبيته حاملاً هم أسئلة زوجته: أين كنت؟ ولمَ تأخرت؟.. وكل الشتائم التي ستكيلها له وستنهال عليه.
_______

ماذا لو اشترى لها هديه وقدم لها هذه الورود البنفسجية التي تحبها؟
بالفعل أخذ معه هديته ووروده وعلى الرغم من أنه معه مفتاح البيت إلا أنه وضع الهدية والورود أمام البيت ودق جرس الباب واختبأ. كانت نائمة فاستيقظت وهي تلعن من بالباب لأنه أيقظها في هذه الساعة.. وعندما فتحت الباب وجدت هذه الورود أمامها وإلى جانبها الهدية.. تعجبت فلم تدرى ماهذا ومن أتى به إلى هنا.. فوجدته أمامها يبتسم. نظرت له بكثير من الدهشة، فلم يفعلها منذ سنين حتى نسيت أنها أنثى فلم تعد تنتظر منه ولا من الحياة جديدًا. عانقته وقالت له: كاد القلق أن يميتنى خوفا عليك.. أحبك. تذكر أنها كانت نائمة ولم يبدُ عليها أي قلق عليه ولكنه ابتسم لها وقال: شكرا لكِ لأنكِ في حياتى تنيرينها لى.
ذهب لعمله بنشاط لم يشعر به من قبل فدومًا كان الذهاب للعمل حمل ثقيل على عاتقه كل صباح.. وهناك بالعمل اقترح أفكارًا ومشاريع جديدة.. لقيت استحسان الجميع وقبولهم.. وفي نهاية اليوم طلبه المدير وأخبره أنه سعيد به.
أصبح شخصًا أخر...
إذا تحدث أنصت له الجميع.. إذا تكلم وجد كل الترحيب لما يقول.. الكل يحبه.. الكل يحترمه.. الكل يسعى لمودته.. لا يختلف عليه اثنان.. يقول الرأي المناسب في الوقت المناسب بالأسلوب المناسب.. أصبحت تتجسد فيه الصورة المثالية لبني البشر؛ كل الأشخاص يريدون أن يصبحوا مثله ويفعلون مايفعل، ولكنه بالنسبة لهم حلم بعيد المنال..
ورغم كل هذا..
أخذ يتساءل: هل أنا سعيد؟.. فحياتي تسير كما ينبغي أن تكون الحياة السعيدة.. كل مايتمناه بنو البشر أفعله أنا، كل مايبغونه وصلت له.. وكعادة البشر لا شيء يرضيهم. بدأ الملل يتسرب إلى نفسه.. فلا مشاكل تقابله ولا انتقادات توجه له.. ولا ذنوب تثقله ولا شيء يبغي الوصول له.. فماذا سيطلب بعد الكمال؟. كل شيء بعد الكمال لا معنى له.
وذات يوم وجد شابًا فى المسجد يبكي بحرقه يتمزق ألمًا.. فسأله لمَ كل هذا البكاء؟ هون على نفسك.
فقال له: كيف وقد بلغت ذنوبي عنان السماء.. كيف وأنا المخطئ المذنب العاصي لله؟
فقال له: أحسدك من كل قلبي.
تعجب الرجل واندهش: تحسدني أنا؟ على أي شيء؟ ....على ذنوبي وأخطائي؟!
- على دموعك التي خلقتها هذه الذنوب والتي يحبها الله.. على كلمة "ياااا رب" التي تخرج من الأعماق.. على أنك لازلت تتمنى وترجو شيئا في الحياة. ترك الشاب غارقًا في دهشته وسار لا يعرف ماذا يريد؟ يتأمل وجوه الناس.
قابله أحد أصدقائه وكان وجهه مشرقا على غير العادة، فسأله عن سر سعادته هذه التي تنطق بها ملامحه. فكان رده: كانت عندي مشكلة كبيرة الأيام الماضية مع زوجتي وكدنا ننفصل.. ‘لا بالأمس قد حللت المشكلة.. لذا أنا سعيد.
هو ليس سعيدًا.. حتى واإن تحقق له الكمال.. بل إن الكمال لبني البشر لعنه تسرق منهم كل معنى للوجود وللحياة.. تصيبهم بالرتابة فلا جديد يسعون إليه ولا هدف يبحثون عنه. أخذ يفكر فى حل لما حل به من عذاب.. كان يدعو الله أن يعطيه الكمال وعندما أعطاه إياه كيف له أن يدعوه بشيء أخر بل وبالنقيض.. حاول أن يجد مخرجًا لما هو فيه ولحياته التي لا معنى لها.. لكنه لم يجد.
ليس فى يده أي حل أبدا سواه.. إنه الموت.!!
نعم الموت.. هو ما سيريحه من كل هذا العذاب.. وبالفعل نظر لهذا البرج العالى.. سيذهب ليلقي بنفسه منه. صعد البرج.. أغمض عينيه.. همّ بالسقوووط.

- استيقظ يابني.. الفجر قد أذن وأنت لازلت نائمًا.. فكيف تكون في بيت الله ولا تصلى فرضه؟!
فتح عينيه، وجد نفسه لازال في المسجد وهذا الشيخ أمامه يحدثه.. فأخذ نفسًا عميقًا وقال: "الحمد لله أن لي نواقص وعيوبًا وزلات وأخطاء. فبدونها لا معنى لأي شيء"... وقام يصلى الفجر.


الكاتب:  دعاء العطار المدوّنة: كلمتي
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة