عن الألم

عجيبٌ هو ذلك الإحساس الذي لا يمكن قياس درجته شعوريًا! فعندما نجوع نستطيع أن نحدد درجة شعورنا بالجوع. وعندما نعطش نستطيع أن ندرك إلى أية درجة وصل بنا العطش.
لكن هذا الإحساس -الذي أتحدث عنه- مختلف! فقد نتمنى الرحيل عن هذه الدنيا حتى نتخلص منه! فهو يتحول بمرور الوقت إلى ما يشبه العدسة التي نبصر بها الأشياء, نعي بها الحقائق ونشعر عن طريقها بالموجودات كفرشاةٍ قاتمٌ لونُها قد مرت على الموجودات المحيطة بك! نزفٌ داخلي لا يهدأ ولا يتوقف! أو كأن أحدهم قد انتزع قابس النور عن حياتك, فأضحت ظلامًا سرمديًا لا ينتهي! فلم يعد ما كان جميلاً كذلك! ولم يعد ما كان يروقك كذلك, وأنت ما عدت أنت!
تبصرك وقد انطويت وانعزلت وأحجمت حتى عن الكلام! وإن تكلمت تخرج كلماتك قاسية عليك وكأن السياط فوق ظهرك قد زادتك لهيبًا والحمل فوق كتفيك قد تضاعف, فتعود لصمتك. يصف الأبنودى هذه الحالة، فيقول:
"وكأن الوحل شد الرجل مني
أنوح واصرخ وانا قاصد أغني"!
إنه الألم في أشد صوره وأعتاها وأكثرها قسوة, ألم الروح! قطعُا ليس هو ذلك الشعور الذي يعتريك إذا ارتطمت ركبتك بشيء ما! أتحدث عن ذلك الألم الذي يُعجِز الأطباءَ ولا تجدي معه الأقراص والمسكنات, ألمٌ ضبابي لا يحتمل, فكما أن عشق الجسد فانٍ وعشق الروح باقٍ, بالمثل ألم الجسد فانٍ بينما ألم الروح باقٍ!
عندما تفتقد شيئًا ما! أو شخصًا ما! عندما تودع من تحب وتعي جيدًا أنه لن يعود. عندما تتنمى حدوث أمرٍ ما ولا يحدث، وتصل لحقيقة أنه لن يحدث! عندما تنتظر من لا يأتي أبدًا لكنك -يا للعجب- لا زلت تنتظره ! عندما يأتي تصرفٌ ما من شخصٍ كنت تعتقد أن مثله لا يأتي أبدًا بمثل هذا التصرف! عندما تأتي الطعنة ممن لا يؤخذ الحذر منه أبدًا. عندما يهتز يقينك بقيمةٍ ما! عندما تشعر بالعجز عن الفعل, فلا شىء بيدك، وما أنت فيه أكبر منك! عندما تتصارع بداخلك الأفكار قبل اتخاذ قرار تعي جيدًا أنه لا رجوع فيه! أتحدث عن صورٍ متعددة لألم الروح كالقلق, الندم, الغربة الاشتياق, الوحشة. أتحدث عن إحساسك بالغدر أو بالخيانة, عن خيبة الأمل! عن حلمٍ لم يرَ النور! عن قصة حب لم تكتمل بعد أن بلغ العشق مداه! عن قرار ما كلفك الكثير! عندما تشعر أنك أصبحت سيزيفَ آخرَ، وأن لعنته الإغريقية قد أصابتك فتحولت إلى جامعٍ للصخور تحملها من السفح إلى قمة الجبل، ثم تلقي بها وتعود فتجمعها مرة أخرى، وهكذا دواليك!
عندما تذهب إلى فراشك فتعاني لساعات قبل أن تذهب -مؤقتًا- عن هذه الدنيا! وقد يكون الأمر أكثر حدة فتأبى الروح المكلومة أن تهدأ ولو
لسويعات قليلة. فلا يأتى النوم إلا كيميائيًا, فنجبر الروح أن تغيب بأن نُغيِّب الجسد أولاً.
ذلك الشعور -عجبًا- يميزنا كبشرٍ عن سائر مخلوقات الله!! ففي اعتقادي إن أردنا أن نعرفنا بدقة وبطريقة أقرب للصواب لقلنا إن الإنسان كائنٌ يتألم! هذا الألم الذي يُذهِب بقوةٍ نتوهم أننا نملكها, وبسلطانٍ وصولجان نعتقد بسذاجة أنهما من أبجديات وجودنا. نتألم فنشعر بالضعف الشديد، ونعي حقًا أنه لا وزن لنا في هذه الحياة. نعي أن ضرب الرأس بحائط القدر هو نوع من العبث لا غير. نعي أن خالقًا أراد لنا أن نتألم، وأنه موجود وقادر ومسيطر وأننا تغافلنا عن هذه الحقيقة وتلَهَّينا عابثين عنها. هكذا خُلقنا يا رفيق، ضعفاءً ومتغطرسين!
ندرك آيضًا أنه لا مهرب ولا ملجأ منه إلا إليه, ونفهم أن للجبار حكمة ربما لا نعيها الآن، وربما ستفهمنا الأيام لماذا أراد الخالق الحكيم والرحيم لنا ذلك. نذهب ضعفاءً وقد ذهبت عنّا كل مظاهر التحدي وكل البهرج الذي نرتديه، ونناجي، أن رحمـــــــــاك بالضعفاء يا قوي يا جبار! نطرق الباب بشدة, بقوة, إن غُلِّقت كل الأبواب يا الله ولم يبقَ إلا بابك، فأين نذهب؟ نخضع له خضوعًا تامًا, فلا رياء ولا ادعاء. تنكسر الجوانح وتدمي المقل وتكثر المناجاة وتشتد الطرق. أن ارفع عنا, رممنا, اجبر كسرنا. أن أخرجنا من هذا الظلام, أن طهرنا فلقد عدنا وعلمنا قَدْرَنا سبحانك ما ابلَيتنا إلا لتقرِّبَنا, و ما قدَّرتَ لنا ذلك إلا رحمةً بنا.
يقول السيَّاب فى أبياته الصوفية شديدة الرقة والعذوبة:
لكَ الحمدُ
إن الرَّزايا عطاءٌ
وإن المصيباتِ.. بعضُ النِّعَم
لكَ الحمدُ
مهما استطالَ البلاءُ
لكَ الحمدُ
مهما استبَدَّ الألَم

فالحمد لله!!
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة