عندما تسافر

كلما مرَّ الوقت يزداد شعوري بالمرارة, والحزن يخيّم على قلبي، أعلم أن اليوم هو الذي نحضّر له منذ أسابيع، أعلم أننا لم نذق نومًا منذ أن تحَدد هذا اليوم, شنطة السفر تتوسط الغرفة، تعيق حركتنا كشئ جاثم على قلوبنا، ثقيلة، نملؤها كل يوم بقطع من ذكرياتنا, هذا العطر الذي أهديتك إياه في عيد ميلادك الثاني, هذا هو القميص الذي رأيتك به أول مرة, هذه نظارة الشمس التي ارتديتها لأول مرة في رحلة شهر العسل, هذا البرواز الخشبي الذي يحمل صورتنا قبل الزفاف بأيام, لقد امتلأت الشنطة ومازال لدينا الكثير من الذكريات التي سنتركها... لا مكان لها في شنطة السفر.
أمسك دموعي بصعوبة لا أريد آخر صورة لي في ذهنك وأنا أبكي, أرسم ابتسامة باهتة على وجهي وأتكلم، أتكلم لا أتوقف عن الكلام، أحاول أن أشَوّش على أفكاري، ألا أسمحَ لعقلي أن يعمل, أحاول أن أفرض الحصار على قلبي حتى لا يشعر, أتعامل مع الموقف وكأنني أمي وهي تجهز الشنطة وتودع أبي قبل سفره, ياااااه! وكأن السفر لعنة لا تنتهي، عشت نصف عمري أعاني من السفر، من التمزق، من الغربة، وعندما عرفتك وعرفت معك الاستقرار كان السفر مصيرنا أيضًا...مرة أخرى أمُرّ بنفس التجربة، وأعيش نفس اللحظات الكئيبة، ومعك أنت...
لا وقت للهذيان، علينا أن نضغط على الشنطة بقوة، ونغلقها كي لا تهرب منها الذكريات, أنت أيضًا تمثال شمعي أخفيت روحك عني, حبست مشاعرك في قمقم خشية أن تضعف, لكنك تفشل هذه المرة في التظاهر بالقوة, تختلط دموعنا في لحظات قليلة خاطفة على باب بيتنا, نذهب لمكان أعرفه جيدًا مكان شهِد دموعي وحزني بقدر ما شهد فرحتي ولهفتي... المطار هادئ على غير العادة, هل ستودعني بقبلة أم أنك ضد التقبيل في المطار مثل أبي؟, هل سأبتسم مثل أمي وأهون عليك بكلمتين ثم أصمت لساعات بعد سفرك؟... لا أستطيع توقع هذه اللحظة.
تحاول أن تسلم عليّ بيدك لكن يأبى قلبك إلا أن يضمني ضمة صغيرة.. تزيد من عذابنا وتشعله, تتركني... أظل أنظر لك وكأني في إحد الأفلام، لا أصدق عيني, هل أنت حقًا مسافر؟, هل حقًا تركتني؟... تشير بيدك ثم تختفي تتلاشى صورتك والهواء الذي يحمل أنفاسك، وأتلاشى أنا أيضًا.
أعود وداخلي شعور غريب بأني أصبحت نصفين، نصف يبكي، ونصف يحنو عليه ويكفكف دموعه, نصف ضعيييييف، ونصف يقول (اجمدي), أشتكي لنفسي وأصَبِّر نفسي , أصبحت ألعب دورك أتحدث وأرد برَدِّك, أحاول أن أتقمص تفكيرك, أعود لمنزلنا أتمنى لو أرتدي بيجامتك وأنام في مكانك, الأثاث صامت كأنه كان يتحدث وأنت هنا, أصوات كثيرة صمتت داخلي أصبحت بعد سفرك خواءً.
بعد يوم أو يومين سأعاود حياتي، سيمر كل شئ كما تريد، سأتجنب أن أقص عليك إلا ما يسُرُّك، ولن تعرف أشيائي الصغيرة، ولن أعرف أدق تفاصيلك لأن بيننا مسافات واسعة, ثم تعود بالهدايا، ونُقضي إجازتك خروج ومرح كما كنا مع أبي, وتبدأ لفَتاتٌ صغيرة بيننا تندثر، وتأخذنا الحياة لمنطقة أخرى من الغربة النفسية, يقترب ميعادُ سفرك، ونعاود هذا اليوم مرة أخرى...
أرجوك، لا توبخني وتقول إنني من أضعت فرصة السفر, فلهذه الأسباب رفضت فكرة سفرك منذ البداية...تهون كل مصاعب الحياة ولا تهون الحياة بدونك.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة