عزيزي أمبيرتو (الرسالة الثالثة)

عزيزي أمبيرتو..
كنتُ قد وعدتك برسالة تبشّرك عني؛ لكنني لم أفعل. لم أنْسكَ في لحظات الفرح التي عشتها في الثلاثة أشهر ونصف السابقة، لكنني كنتُ أنتظر تمام الشهر الرابع لأخبرك ماذا حدث بكل ثقة، أخبروني أن تمام الشهر الرابع يشي بتمام الشهور التسع يا عزيزي. كنت كلما رفرف قلبي سعيدًا؛ أخذت نفسًا عميقًا و نفثته مخلوطًا بإيمان انتقاله إليك.
ثلاثة أشهر ونِصف.. وأُجهِض كل شيء. لم أكن أنا، صدّقني لم أكن أنا. هذه المرّة سِرْت على كل تعليماتك وتعليمات أمي بحذر، بهدوء تدبّرت كل الاحتياطات. سِرْت وأمامي مستخلصات من روشتة التجارب التي مررت بها لئلا أكرر الخطأ ذاته، وملأتُ نفسي بأمور ما كنت أفعلها سابقًا. كنت هادئة، مطواعة، راضية بكل النواقص أكثر من المعتاد، وربما أكثر من اللازم! مات جنين القلب على بُعد أحد عشر يومًا من تمام الشهر الرابع، مات وقد نُفِثت فيه الروح منذ أن غادرنا ”بالي“، مات على مرأى العين يا ”أمبيرتو” قبل أن نعبر الشاطئ الآخر من عمرنا معًا. مات ورأيت خيوط نزيفه على وجهي تشقّ طريقها بلا رحمة. مات؛ وانفرطت سلاسل الآمال التي كنّا نعقِدها و نعلّقها على جِيد قلبَيْنا.
ماذا لو كان في الحقيقة لم يمُت، ماذا لو أنه أجْهَضه بعد أن ملّ حمله معي؟.. هل ثمّة فرق يا عزيزي؟
كان بودّي أن أجنّبك مرارة الشكوى هذه المرّة، أن أخففها على الأقل وأشكو احتضاره حين ألجأ إليكَ. لكنني ما كنت أملِك جهدًا ووقتًا يسنِدني، يسنِد كسري.
تخيّل أنه كان عليّ التكيّف مع كل ما حدَث دون معرفة السبب، تخيّل أن عليّ تقبّل كل القرارات والأقدار دون أن أكون مُذنِبة، تخيّل أن عليّ الرضوخ لأنهم أرادوا ذلك، أن كلمتهم كانت أقوى من إرادته، من حبّنا.. بل من حبّه لي!
هل كان يحبّني حقاً يا ”أمبيرتو“؟ أخبِرني أنت. لمَ تخلّى عنّي، عن حلمنا، عن ذاكرة الشهور الثلاثة والنصف. أخبِرني لمَ تخلّى عن خارطة الطريق التي خططْناها في عشاء شاطئ katamaran و غداء فندق Nusa Dua. أخبِرني لم تخلَّ عن قرار الليلة الأخيرة، عن رؤية صِغارنا الخمسة معا. أخبرني كيف تخلّى عن ” أحبك ” الأولى والرابع عشر من كل شهر. أخبرني كيف تناسى وعوده بأن لا يكسِر فيّ شيئا حين أخبرته يومها: ”لستُ على استعداد لرؤية قلبي يتكسّر مرة أخرى“.
هل كان يحبّني مِلء قلبِه كما أحببته مِلء نفسي؟ أخبِرني أنت، لعلّي ما رأيتُ ما كشَفته أنت، لعلّي عميت عن لحظة انشغالي بتمهيد عمري له، لعلّي سكِرتُ لحظة انتشائي به. هل كان يحبّني كما أسكنْته قلبي وعيني وساحاتِ ذاكرتي حتى ما بِتُّ أرى أحدا سواه؟ أخبِرني أنت، لعلّي سهَوْت في صلاة قلبي لحبّه.
كم ماءً أحتاجه لأغتسِل منه يا ”أمبيرتو“؟ كم حياة أحتاج لأسْلو عنه، عن غيابه، عن خوفه عليّ. كم غُسلاً أحتاج لأمحو رائحته المشبّعة في كل خليّة مني، لأمسح عن أيامي تفاصيلاً ما اعتدتها إلا معه، أتكفيني سبعة أغسال لأتطهّر منه؟ كم ذاكرة أحتاج لأنسى ”كنجة” بِكرِه حين منحها للمانجو اسمًا، لأنسى وُسطاه الأوبرالية، وصغيره ذا السهرات المشاكِسة. هل ينسى بشر مُضغته وامتداده الذي أحبّه دون أن يلتقيه أو يلِده؟ كم أبجديّة أحتاج لأنسى اسمه، لأتغاضى عن حروفه، نقشَه، شوقه المسكوب في كل زاوية من عيني. هل أقتلِع عيني لئلا أرى اسمه فلا يحرّكني الشوق إليه؟. كم بلدا أحتاج لمسَ ترابه لأخذل ذاكرة رحلاتنا معا، تذاكرنا التي خبأتها عنه حتى بعد سفرِنا، الأماكن الأولى التي وطئناها معا، الشمس التي غيّرت لوني، قميصه المنسِيّ في بيتنا. كيف أُزيل رائحة سجائره في شعري الذي -كان- يحب؟
أكتُب لكَ الآن في الركن الذي تعلمُ أمي جيدًا كيف أحبّ الجلوس فيه لقراءاتي المسائية، هو ذات الركنِ الذي آوى إليه في مسائنا الثاني معًا حتى الرابعة فجرًا. و اليوم طلبتُ من الخادمة تغيير المكان، نقلتُه إلى زاوية أخرى من الفناء الخارجي بشكل يمنحني القدرة على رؤية كل أركانه. كان يعجّ بالأحمر حسب ذوقِ أمي في اختيارها لديكور منزلها، الآن غدا كل ما فيه بنفسجيًا ليمنحني المزيد من الانتماء. ألقيت الوسائد كيفما اتفق -على العكس منها تمامًا- فرَشتُ لحافًا أبيض مائلاً للصفرة، وعلى أطرافه حيكت زهور بنفسجية صغيرة أشبه باللافندر. على طرفيه الأُفُقيّين رصصتُ أوعية اللافندر والياسمين التي ابتعتُها صباحًا على وعدٍ من أمي لسقايتها كل يومين. مازالت بي حاجة لتغيير طقوسي التي أقحَم ذاته فيها بلا استئذان. هل يستأذن الحب قبل أن يطرق قلب أحدهم؟ قرأتُ مرة في سقْفِ الكفاية لعلوان:
لا يكون الحب قرارًا أبدًا، إنه الشيء الذي يختار اثنين بكلّ دقة، ويُشعل بينهما فتيل المواجهة، ويتركهما في فوضى المشاعر، دون دليل.
إنه يريدهما بذلك أن يتعلّما أول دروس الحب.
كيف يحتاج كلٌ منهما إلى الآخر.
هل أفهم هذا أننا بافتراقنا ماعدنا نحتاج أحدنا الآخر؟ و حين كنّا معًا؛ فيمَ كنتُ أحتاجه وفيمَ كان يحتاجني؟ كانت الإجابة أقسى مما توقّعت:
اكتشفت أخيرًا أن الكلمات التي يقولها عاشقان في لحظة عناق، والوعود التي يقطعانها في غمرة بكاء، لا يجب أن تؤخذ بجديّة .!!
عزيزي أمبيرتو..
دعْكَ من كل أسئلتي تلك. أخبِرني عنك، عن البيضاء الرشيقة ”إيميليا” -قطّتك- التي اقتنيْتها لأجلي، لتتذكّرني كلما ماءت ملتصِقة بِك. أخبِرني عن رحلتكِ الأخيرة إلى Goa بعد أن قصصتُ عليكَ نيّتي بزيارتها، هل كانت تستحِق العناء؟ أخبِرني عن يوميّاتك التي ما كان هناك وقتٌ كافٍ لسماعِها بوجوده.
ماذا حدَث بعد انتقالك إلى سان دييجو؟ هل راقَ لكَ جسرها وشواطئها؟ تعلم جيدًا كيف تغريني هذه المدينة المكسيكية الأسبانية، بأنوارها الليلية، كنائسها القديمة المنتشرة في كل مكان ومبانيها التاريخية التي تحكي كل زاوية منها حدثا يخصّها دون غيرها. شيء ما يشدّني لها على الرغم من قلّة قراءاتي عنها. انتظِرني هناك يا صديقي، وجودكَ فيها سيكون سببا لزيارتها ذات خريف.
لم أخبِرك عن ريو دي جانيرو، إنها قصة أخرى يا عزبزي!
كنتُ مغرمة بها ذات أسبوع؛ هو ذاته الذي شاهدت فيه فيلمَي Rio و Fast 5. كل شيء فيّ كان منجذبًا لتلك المدينة؛ الشواطئ، الموسيقى، الناس، الزحام، كرنفالها المحلّي كل فبراير … حتى تمثال المسيح المخلِص هناك، “ريو” مدينة يحتفِل كل مَن فيها كل يوم. هل أحسستَ برغبة فجائية للرقص وأنت تشاهد فيلمًا؟ Rio فعلت فيّ ذلك. في المطاعم الفاخرة؛ السامبا حكاية يا “أمبيرتو”، تحرّك الخلايا النائمة في داخلي، و من حيث لا أعي؛ أتمايل، على الرغم من أنني لا أجيد الرقص أبدًا، حتى “دانة” كانت تستنكِر فِعلتي وندائي إياها لمشاركتي. كصلاة جماعية لا تكتمِل إن أقمتَها وحدكَ، تغرِس فيكَ معنى الحياة وسطَ سِرْب متآلف ينسى حينها خلافاته الشخصية.. و يذوب. كذلك اليوم الذي رقصنا فيه معا على Sway.
كانت تتعجّب أمي من اختياري للمدن، مزاجي فيها لا يوافق مزاجها. حتى “بالي” التي قضينا فيها 4 أيام، كنا نسكن جانبًا لا يروقها كثيرًا. كوالالمبور هي الوحيدة التي مافتئنا نردد سوية بأن لا مدينة تشبهها. حين عُرِض عليّ العمل مبدئيا على مشروع المدينة العربية في ”Melaka“، وافَقتُهم، لكنني لن أسكُنها وإن كانت تقعُ على مسافة ساعتين من هنا، أخبرتهم بأنني “كوالالمبورية” الهوى، بأنني لو خرجت منها سأموت! كالأسماك النهرية حين لا تعيش طويلاً في المياه المالحة.
كم مرة أحببتَ يا ” أمبيرتو “؟ سؤال ساذج، أليس كذلك؟
ذات السؤال دار في رأسي حين أخبرتُ أمي عمّا حدَث. جمعتُ قوتي و أخبرتها بهدوء، هي التي قضَت معه وقتًا كافيًا قبل أن تُبارِك حبّنا -أو ما كان حبًا-. حين رأته؛ تنبّأت بأنه لن يخذلني كمَن سبَقه، ومنحته قطعة من أمومتها مغلّفة بإفطارِه معنا ذلك اليوم. أمي تقرأ وجوهنا ووجوه مَن نحبّ، لذا ما كنتُ قادرة على تحمّل خذلانها، على انكسار فرحتها به، وافتخارها به أمام صديقاتها، كانت المرة الأولى التي أسمعها تمنحُ أحد أصدقائي لقبًا عائليًا، وتُعِدّ أحدهم فردًا فيها دون تكلّف. كانت تراه إثباتا على انتظارِها لحظّي المُشرِق وهي تتفاءل بحبّة الخال القابعة على مستوى عيني اليُمنى أقصى الوجهِ قُرْب أذني. في اليوم الخامس من إخباري إياها بما حدث؛ سقطت مغشيًا عليها. لم تتحمّل سنيّها الست والستّون خيبة جديدة تلحقُ بي، أورثَتها صداعًا نصفيًا وارتفاعًا في الضغط. وأنا؛ كدتُ أموت حين رأيتها لا تستجيب لندائي، ما كانت تستجيب لصوتي، وانحشر الدمع في زاوية من عيني ممتزجًا بخوفي من فقدِها. حين سقطت؛ كنت على استعداد على التخلّي عن كل شيء من أجلها، بإمكاني تحمّل مآسي العالم إلا مأساة فِراقها. كأنني في عاصفة؛ خِفتُ فيها من فقدِ سقف بيتنا فلا أجِد قلبًا يُظِلّني و أخوتي الثلاث الكِبار. هو ما كان آسِفًا على ما حدَث، و سقوطها ذلكَ اليوم كان مُبررًا لأن أكرهه.. و أنساه.
هل كنتَ تصلِّي لقلبي في كنسيتك يا ”أمبيرتو“، أم أنكَ تركتَ زياراتك لها في الآحاد؟ تعلم؛ حين وصلَتني رسالته تلك الجمعة والأيام التي تلتها ونحن نودّع بعضنا، تذكرتُ ما قالته ” منيرة السبيعي ” في روايتها بيت الطاعة:
ما لم تحصل عليه هو ما لم ترغب به بما فيه الكفاية
ربما حدث ذات الأمر هنا دون أدري؛ ربما لم نكن راغبين حقيقة في استمرار الحياة معا، ربما أحببنا لكننا في قرارة نفسَيْنا كنا على استعداد على التخلّي عن الطرف الآخر من أجل آخرين. ربما ارتفع حديثي إليه ذات انفراجةٍ في السماء حين كنتُ أمازِحه بأن أمامي مجالاً واسعًا للتراجع عن قراري. كنتُ حينها لا أتخيّل هجْر مدينتي إلى مدينته، ككل المرّات التي كنّ صديقات أمي يسألنني عن موعِد انتقالي إلى هناك، و كنتُ أجيبهم: ”لا داعي للعجَلة، مازِلت غير قادرة على تصوّر حياتي خارج KL“، ككل المرّات التي أتنفّس هواءها بعمْق بعد أن أغادِرها، كالمرّات التي كنا نحلّق فوقها عائدين وأنا أردد على مسمَعٍ منه: ”يااااااااه! راحة نفسية لما أرجع KL“، وككل المرّات التي أوشوش ذاتي فيها ”النِمْرة الآسيوية لا تعيش في الصحراء“. وكأنّ مدينتي كانت تؤمّن خلفي دون أدري، وكأنها – دون أن أفهم – تخبِرني أن لا أُغادِرها، أن لا أخونها مع أخرى. وحين افترقنا؛ سألتُ نفسي: هل وافق ما قُلتُه ساعة استجابة؟
في الرابع عشر من الشهر الثالث لنا سويّة؛ كتبتُ له رسالة أذكّره بها، عاتَبتُه بأنها المرّة الثالثة التي أقوم بتذكيرهِ بها. كان يقول:
- ”طيب حبيبي إنتِ المخ وأنا العضلات“.
ضحِكتُ ليلة أمس حين دقّ هاتفي تمام الثانية عشرة ليُذكّرني بهذا اليوم، وتمتمتُ: بقراره ذاك؛ يكون قد فقَدني للأبد، و–بناءً عليه– يبدو أنه فقَد عقله، و–دون أن يُدرِك– أثبَت لي ذلك! : )
صباح اليوم؛ وهي تُعدّ لي حساء الفِطر وترصّ على جانب الطبق شريحة الخبز المدهون بزيت الزيتون والثوم، مع طبق البيْض مخلوطًا بالجبن الأبيض بعد أن رشّت عليه من تمائم الأمومة لإفطاري وترتّب علبة الغداء، بينما أعِدّ قهوتنا قبل ذهابي لعملي، أخبرتها بأننا في منتصفِ الشهر، بأنه موعِدي مع اليوم الرابع عشر. اليوم فقط أخبرَتني كم هي مُستاءة منه، وحجم الخيبة يقطُر منها ”I’m so disappointed of him!“. سألَتني أمي عنه، سألتني إن حادَثني بعد ما حصَل أم لا، كانت المرة الأولى التي تختبِر فيها ذاكرتي ونسياني إياه بتحديقها في وجهي علّها ترى دمعة اشتياق نافرة. قطّبتُ حاجبَيّ وأشرْتُ برأسي أن ”لا“، وابتسامة مُستنكِرة ترتسِم على وجهي باستحياء. كتِلك التي أراها على وجهها كلّما أخبرتها: ”أمبيرتو” هنا.. ويكفيني!
ستصِلك هذه الرسالة يا عزيزي تمام الخامسة والنصف صباحا في اليوم الرابع عشر من الشهر، ذات الساعة التي نطَق فيها ”أحبكِ” الأولى في الرابع عشر من فبراير. أعِدكَ أنها المرة الأخيرة التي سأحدّثك عنه، عن أيامي معه، عن غرامي بكل الذكريات التي جمعتني به. كل ما عليّ هو إصلاح العطَب بطريقة ما، بعيدًا عن كل ما يذكّرني به، سأكون حينها قد دفنت الجزء المكسور مني.. فلا حاجة لي به.
——————————–
أبجد:
تخيّل؛ كانت أحد عشر يومًا بين “أحبكِ” الأولى التي أسرّ بها إلي و بين “أحبكَ” التي ردّدت صداه، وأحد عشر يومًا احتجتُ منذ افترقنا ونِسْياني إياه.


الكاتب:  asma Qadah المدوّنة: عالم asma
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة