متحرشون

اضطرّني الزحام للتوقف مجددا مبددا بذلك آخر ما تبقى لي من صبر على تحمل هذا القيظ، زفرت أنفاسي الملتهبة وفعلتها، أدرت زر تكييف السيارة مجازفا بآخر ما تبقى لي من وقود حتى أقرب محطة بنزين لا يعلم مكانها إلا الله. بدأ غاز الفريون في التسرب وبدأت في الانتشاء مسترخيا مستلقيا على كرسيّي لا مباليا بالسيارات المجاورة التي امتدت لمرمى البصر. أخذت أتابع بنظراتي إحدى الدراجات البخارية العابرة بين ثنايا الحارات في محاولة للتغلب عليى الزحام، أوشكت بالفعل على الاصطدام بمقدمة سيارتي أثناء عبورها، الأمر الذي جعلني أنتبه وأتنبّه للأمام وكأنني عبثا سأمنعها من الاحتكاك بي, انتقلت نظراتي نحو الفراغ الواقع بيني وبين إحدى السيارات دون هدف حتى لفتت انتباهي... فتاة في العشرينيات متوسطة الطول والحجم تحاول عبور ذاك الفراغ نحو الجانب الآخر من الطريق، وكعادة شوارع وسط المدينة لم تكن تلك الفتاة وحدها من تحاول. جلست أتابع ثلاثة من الشباب جاؤوا من الاتجاه المعاكس باتجاه الفتاة ولسان حالهم يقول: "أهلا بالفريسة" كان زجاج السيارة المغلق والموسيقي المتصاعدة من سماعات السيارة يحولان دون أن أسمع شيئا مما يحدث خارجا، إلا أن ذلك لم يمنعني من ملاحظة ما يحدث ولم أحتج حقا أكثر من ذلك، فما أن شاهدت وجوههم حتي انتقلت عيناي لا إراديا نحو الفتاة وكأنني أنتظر شيئا ما. لاحظت تباطؤ خطواتها حتى توقفت تماما، توقفت وانحنت رقبتها نحو أسفلت الطريق واختفت مشاعرها خلف جدية تعبيراتها والنظارة القاتمة التي ترتديها. كانت قد قررت أن تتخذ جانبًا لهم حتي يعبروا، وكأنها من يُفترض أن تفعل!. عدت ببصري نحوهم وكأنني أشاهد عرضا لمسرحية هزلية سخيفة، كانوا يعبرون صفا واحدا تلو الآخر، ولم ألحظ من بينهم من يخطط أو يشير لزميليه بما ينصحه أن يفعل، إلا أن رابطا همجيا جمع بينهم وربط أفكارهم وما تبعتها من أفعال، مروا عليها ولاحظت شفاههم التي تتحرك وتلتوي بعنف ينم عن بشاعة ما ينطقون به. سارع كل منهم يقذفها بكلماته التي لم أدرك ماهيتها ولم أكن بحاجة لذلك حقا، كانت رقابهم تتحرك دائريا فور عبور كل منهم بجوارها رقبة تلو الأخرى وكأن حبلا مخفيا يجذبهم باتجاهها، وفي كل حركة أشعر وكأنني أشاهد كلماتهم حية تتنفس، تتحرك في أثيرها، ترتطم بها تمزق كيانها. لم تكن حقا وللأمانة ترتدي ما يمكن أن يجعلها – جزافا – محل اتهام، إلا أن ذلك أيضا لم يردعهم، وكأن ذلك عملا روتينيا يقومون به يوميا دون أن يفكروا في عواقبه، وكأن ذلك حق مكتسب يوفره لهم مجتمعهم والقانون، وكأنهم يبدون إعجابهم بقميص معلق في إحدى فترينات محلات وسط المدينة، مجرد سلعة استباحوا العبث بها، شعرت حقا بعروقها تكاد تتفجر، شعرت بتحفزها انتظارا لعبورهم من جوارها حتى تتمكن من المرور، شعرت بتساؤلاتها المستميتة عما فعلت لتتعرض لكل هذه المهانة، شعرت بأسنانها تجزّ بعضها بعضا من فرط بشاعة الكلمات -كما استنتجت- ومن فرط نظراتهم المستفزة المتدنية المتفحصة الممزقة التي تخترقها، شعرت بها تتساءل إلى متى؟ . . شعرت بلسان حالها الذي يلعن كونها أنثى. حدث هذا خلال ثوان لا أكثر، هكذا شعرت وهكذا لم تشعر هي، حدث هذا اليوم وبالأمس وسيحدث غدا أيضا، حدث هذا ويحدث لها ولغيرها ممن نعرفهن وممن لم نتعرف بهن، حدث هذا ويحدث لشقيقتي وشقيقتك وزوجتي وزوجتك وقريبتي وقريبتك، حدث هذا ويحدث ولكنهن لم تحكين، حدث هذا ويحدث ولكنهن لم يقدرن على الشكوى، حدث هذا ويحدث ما لم نجد الدواء. حدث هذا ويحدث وسيحدث ما لم نقوَ على التغيير.
 
كتاب المئة تدوينة. Powered by Blogger.

التصنيفات

القائمة الكاملة للتدوينات

 

© 2010 صفحة التدوينات المرشحة لكتاب المئة تدوينة