في الوقت الذي وضعَت فيه الحرب الأهليه الأمريكيه أوزارها 1865.. بكل ما كانت تحمله من نشوة الانتصار وآلام المعركة.. وآلام العبيد الزنوج سواء من الحرب أو من أسيادهم البيض.. ومع إعلان إبراهام لينكولن 1863 السابق لنهاية الحرب بعامين عن الغاء نظام الرِّقّ والعبودية. بدأت ولادة موسيقى الجاز.... في مدينة “نيو أورليانز”.
وخلاصة النشأة أن موسيقى الجاز جمعت ما بين التراث المفقود من الألحان والإيقاعات الإفريقيه القديمة والتي توارثوها بالغناء في الحقول ممزوجة بالألحان الكَنَسية الكاثوليكية أو البروتستانتية، مع صرخات الآلام والعذاب الذي عاشوا به ردحًا من الزمان.. مع أيضًا الموسيقى والألحان الأوربية التي كان يستمع إليها أسيادهم البيض من الإنجليز والأسبان والفرنسيين. هذا الخليط العجيب.. خرج من أبواق الآلات النحاسية المبعثرة على الطرقات.. من مخلفات الحرب الأهلية، ليصنع موسيقى الجاز بتاريخها الذي تعدّى قرنًا من الزمان.
قد تتعجب من المقدمة السابقة، لكنك ستتلمس لي العذر لو علمت ما يدور بخاطري.. النبذة السابقة طالما تردّدَت برأسي كلما ارتقيت لأصعد إلى ميكروباص... أو توك توك "إن صحَّت كتابتي للَّفظ"... أو تاكسي .. طالما أنهم يديرون كثيرًا من موسيقى "العنب".. " الدنيا خربانة!!"... "جوجوجوجوجوجووووووو.." والكثير مما يعفّ اللسان، وتعفّ لوحة المفاتيح عن ذكره.... أتذكر... وأقارن...
كان الزنجي يرضخ تحت العبودية، وحينما أتت الحرية لم تأتِ كاملة... بل كانت منقوصة مليئة بالإهانات...حرية منقوصة. سائق الميكروباص/التوك توك/ التاكسي.. الذي يشعر دائمًا بأنه مواطن درجة ثالثة.. وأنه من يحترق حتى يعيش الكبار.. والباشوات أمناء الشرطة.. وكمائن المرور... العشرات والعشرينات من الجنيهات التي يدفعها ليرضَى البهوات عنه في كل موقف وكل كمين... وفي الوقت ذاته، يشعر بحريته داخل ميكروباصه... طالما أن المقود تحت يديه.. هي أيضًا حرية منقوصة.
الزنجي الذي ترأَّس أول فرقة لموسيقى الجاز حلاق، اسمه “بادي بولدن”، الذي كان حلاقًا بالنهار وعازفًا “كورونيت” بالليل. السائق الذي يقود الميكروباص/التوك توك/ التاكسي..... في كثير من الأحيان.. يترأس فرقة غنائية ليلاً تشدو بالكثير من: "جوجوجوجوجوووووووووو".
موسيقى الجاز بدأت من الأحياء الفقيرة. موسيقى الـ "جوجوجوجوووووووو".. بدأت من ما يسمونه في الجرائد القومية بـ "العشوائيات".. والأحياء الشعبية.
موسيقى الجاز مليئة بالارتجال في طور النشأة.... موسيقى الـ "جوجوجوجوووووووو"... الارتجال ذاته.
فقط الفارق الزمني هو الذي جعل موسيقى الجاز تأخذ منحنًى تصاعديًا حتى تصبح موسيقى الطبقات البرجوازية.. حينما بدأت في التخلص من الكثير العفوية 1945. ليتبناها الكثير من الدارسين والمهتمين بالموسيقى... لترتقي السلم السيمفوني لتعزف في دار الأوبرا. وليؤلَّف منها الكلاسيكيات.. والتي لم يتخيل الحلاق "بادي بولدن" أن موسيقاه ستكون ذائعة السيط إلى هذا الحد.. هذا الفارق الزمني يرشدنا إلى أن موسيقى الـ "جوجوجوجوووووووووو" لاتزال في طور الارتجالية والعفوية، ولم يتم إلى حد كبير تكوين ملامح لها.. غير أنها ممزوجة بالكثير من الآلام النفسية الناتجة عن حب بنت الحتة.. وزواجها من صاحب الميكروباص الذي يعمل عليه سائقًا بعدما أمضى كثيرًا من سنين العمر في العراق وليبيا ولبنان.. يتجرع الأمَرّين.. ليأتي له الشيطان ليوسوس له بغوايات إبليسية.. بشأن جارته التي تشاغله.. وعدم الممانعة من احتساء الجون ووكر... مطالبًا له "بالدردحة" إلى حد يدفعه للذهاب إلى دور السينما... والكثير من الإيحاءات الجنسية الممزوجة بألفاظ تحتمل المعنيين.. يعجز أبو تمام ذاته عن أن يضح ألفاظًا تحتمل كل هذه المعاني.. مؤكدًا أن المعني في بطن الشاعر.
غير أنني منذ أيام قليلة لمست أن بعض سائقي الميكروباصات يستمعون.. لموسيقى فقط... على غرار موسيقى الـ "جوجوجوجووووووووووو" غير أنها لا غناء فيها... لتشبه إلى حد ما بعض سيمفونيات "يوهان سباستيان باخ" إذا ما افترضنا مسبقًا أن "باخ" كان يعيش في زقاق (علي علوكّة وأشرف كخّة).... وهي إلى حد ما تعد تطورًا.. لم يعتد عليه الكثير....
أخيرًا يأتي السؤال.. متى سنرى "جوجوجوجوووووووووو" تعرض في دار الأوبرا... ليحضرها عِلية القوم ويتمايلون طربًا لما بها من معانٍ؟ الجواب بسيط جدًا... طالما أننا رأينا
akon
يشدو بأغانيه.. ما بين
I wanna f**k you
والإصدار المحترم منها
I wanna love you
بدار الأوبرا المصرية.
إذَن فهذا اليوم قد اقترب للغايه.. يا صديقي.. فقط لا تنسَ أن تحجز لي بلكون معك.